القافلة الأخيرة بين الحقيقة والرأي

كتاب  يجسد  هجرة السريان الرهاويين من مدينة الرها الى مدينة حلب الشهباء عام 1924
/إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها /
 

 



  مقدمة

حتى نفهم بشكل مقنع وواضح دور مدينة الرها الحضاري، ومكانتها بين بقية مدن وادي الرافدين، وعطاءاتها في ميادين مختلفة منها الحركة الثقافية، ينبغي أن نعود إلى أصولها الحضارية والبشرية، ذلك لأن للتكوين التاريخي الشامل أثراً كبيراً في مسيرة حياة هذه" المدينة المباركة " . من هنا ننطلق لنرصد باختصار تاريخ الرها منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا سياسياً ودينياً .

 أ‌- سياسياً : يؤكد أغلب المؤرخين أن وجود الرها كمدينة ذات شأن وكيان مستقل كان قبل الفتح المقدوني، رغم أن كل المحاولات أخفقت حتى الآن لإثبات وجود هذا الاسم في العصور الآشورية، ويبقى ارتباط  المدينة وثيقا بالأساطير التي دارت حول المنشأ، بدءا من نمرود الذي حكم ارك التي هي أور كما ورد في كتابات مار أفرام السرياني 373+ ، ومرورا بابراهيم الخليل (( صاحب بركة ابراهيم، وسمك ابراهيم، ومسجد الخليل ، ومقام ابراهيم)) بحسب التقاليد الشفهية المتداولة بين أهالي المدينة حتى يومنا هذا ، وانتهاء بسلوقس الأول خلف الاسكندر المقدوني ( 356- 323 ق.م ) في الملك على البلاد الممتدة بين الفرات والهندوس ، الذي أعاد تأسيس وبناء عدد من المدن في الشرق من بينها اورهي حوالي سنة 303 ق.م0
 ويشير تاريخ المدينة السياسي إلى الظرف المؤاتي الذي سمح بتأسيس مملكة مستقلة في إقليم اوسروين وجعل مدينة  الرها عاصمة لها ، وذلك على أثر قضاء البارثيين على قسم كبير من جيش انطيوخس (138- 129 ق.م.) حوالي سنة 180 للسلوقيين أي سنة 132 – 131 ق.م.، وسادت مملكة الرها  حتى عام 216 ب.م عندما قيد الامبراطور كراكالا ( 211- 217م)بالأغلال آخر  ملكين رهاويين هما : ابجر التاسع وابنه ابجر العاشر .  وفي رأي المؤرخ الزوقنيني السرياني ( حوالي سنة 775 م ) إن معنو التاسع ابن ابجر العاشر حكم ستا وعشرين سنة بعد عام 216م . ونعتقد مع من يعتقد أن حكم هذا الأخير كان صوريا وملكه كان بالاسم فقط وربما عاش خلال هذه الفترة  في مدينة روما بالذات . وعندما نذكر ملوك الرها نلاحظ أن أسماءهم سريانية بحتة وبعضها تتكرر أكثر من مرة مثل معنو واريو وأبجر .
 لم تهدأ المدينة بعد انتهاء العهد المملوكي فيها، بل أصبحت مطمعا للفاتحين والغزاة من كل الأطراف، ونالت من جراء ذلك نصيبا كبيرا من الدمار والمصائب والأهوال خاصة خلال الحروب الطاحنة التي دارت بين الرومان والفرس والبيزنطيين من جهة أخرى . ولدينا وثيقة تاريخية هامة جدا تعود إلى القرن السادس للميلاد لمؤلف سرياني عاش في المنطقة اسمه يشوع العمودي ( القرن السادس  م ) سجل فيها وهو شاهد عيان أخبار الأحداث الخطيرة التي وقعت في الرها واطرافها في أواخر القرن الخامس وأوائل السادس للميلاد، وصور بريشة واضحة الأهوال والنكبات التي أصابت كل الإقليم على أثر الحروب المدمرة التي استمرت من عام 363 حتى آخر عام 506 م.
 ومهما قيل في أمر المدينة وموقعها فإنها اكتسبت أهمية استراتيجية خاصة في أواسط القرن الرابع للميلاد إذ أصبحت قاعدة حربية رئيسية للبيزنطيين ولهذا كان من الضروري لروما وبعدئذ لبيزنطية أن تحافظ على رضى الشعب الرهاوي الطيب الفعال وعلى رضى الريفيين منهم أيضا.
 كان للرها شأن آخر بعد الفتح الإسلامي ، إذ يعتبر القرن السابع عصر الاضطراب السياسي في كل المنطقة . فالجيوش الإسلامية فتحت أهم مدن بلاد الرافدين، ولم يقاوم الرهاويون إلا لفترة قصيرة ثم تفاوضوا من أجل السلام  (639م) . وعاشت الرها الصراع بين الموالين لآل علي والخليفة عبد الملك بن مروان ( 646- 705م) وعانى الأهالي من القرارات والأنظمة الجائرة التي فرضت  عليهم. ومما يذكر أن الجزية والخراج كانا باهظين ، وانظمة اللباس والمسكن  والممتلكات كانت تتوخى اهانتهم واحتقارهم ، ونتيجة لما حصل فقدت الرها مكانتها السياسية والدينية.

وبعد الفتح الإسلامي تنقلت المدينة من احتلال إلى احتلال، وتحملت هجمات الغزاة والطامعين الذين سجلوا صفحات قاتمة مريرة في حياتها وما جاورها من
 المدن في كل الاقليم ، بدءاً من السابع للميلاد وحتى القرن الرابع عشر. ونشير هنا إلى أن  البيزنطيين احتلوا الرها ومدنا أخرى في بلاد الرافدين بين عامي  942 – 943 م  . ولم يرحم المدينة وسكانها الفرنج ( الصليبيون) أثناء حملاتهم التدميرية ذات الطابع الاستعماري ، وحررها مرة القائد صلاح الدين  الأيوبي عام 1182 م ، واحتلها التتر والمغول بين الأعوام 1244 – 1260 ، وأصبحت ردحا من الزمن أطلالا قبل أن يستولي عليها الأتراك في عهد مراد الرابع  ( 1609 – 1640 م ) أثناء حروبه مع الفرس وهو السلطان العثماني الذي انتزع بغداد من الفرس عام  1638.
 الرها اليوم أورفة في تركيا ، عدد سكانها حوالي مئة ألف نسمة وهي خالية من المسيحيين .

ب‌-   دينيا : ماضي الرها المسيحي يشكل صفحة مميزة من صفحات التراث والعلم والتقدم في كل بلاد ما بين النهرين .
 وتحمل وثيقة تعاليم الرسول أدى بين  طياتها خبر وصول المسيحية إلى الرها وانتشارها بعدئذ في كل شبر من أرض الرافدين . ويترك ادي الرسول أثرا في نفوس سكان المدينة والعائلة الحاكمة من خلال سيرته النقية وعظاته الروحية وموهبة الشفاء التي منحت له، وكان ان (( هرع زعماء الكهنة في المدينة .. وهدموا الهياكل التي كانوا يضحون عليها من قبل لنابو و بيل الهيهم ما خلا الهيكل الكبير في وسط المدينة.. وعمدهم ادي.. وحتى اليهود المتضلعون في الشريعة والأنبياء.. اقنعوا هم أيضاً واعتنقوا المذهب المسيحي)).
 ويشهد اوسابيوس القيصري في تاريخه وقائع ذلك الحدث الهام ويسرد في الفصل الثالث عشر من الكتاب الأول رواية عن ملك الرهاويين واللقاء بين السيد المسيح وممثلي ابجر الحاكم ويقول : (( وليس شيء أفضل من أن تسمعوا الرسائل نفسها التي أخذناها من السجلات الرسمية وترجمناها من اللغة السريانية على النحو التالي)) ويهمنا أن نعلم هنا أن اوسابيوس المؤرخ يعتمد على ارشيف يفترض أنه
 كان محفوظا حتى أيامه . وفي الكتاب يثبت أوسابيوس صورة الرسالتين  المتبادلتين بين أبجر  الحاكم  والسيد المسيح ، وقد ثبتها أيضاً بنصها السرياني المؤرخون السريان بعد القرن السابع للميلاد .
ولكن هذه (( البركة)) جرحت مع سرعة دورة الأيام ، فبدل أن يبقى الإنسان في الرها وأطرافها مشدودا إلى العبر والعظات ، ومرتبطا بالمواقف المشرفة لتكون له منارة ونبراسا وهداية ، نراه يتنكر لها ويتجنى عليها ويسلك سبيلا عكس الاتجاه المطلوب وينقلب من رمز لنصر آت للأجيال ومحور لتراث مجيد حافل زاخر بالعز إلى معول لهدم سمات المدنية وخصائصها . فالرها مهد الحضارة والتي أصبحت مركز إشعاع مسيحي هام في القرن الأول للميلاد ، وتبوأت مكانة هامة في مسيرة الآداب السريانية وعلومها وفنونها شن عليها  أعداؤها وأعداء النصرانية اضطهادات عنيفة فتجرع أبناؤها كؤوسا مترعة من المرائر وعانى الإقليم كله غصصا من الآلام الفادحة ، وقد استغل بعض الحكام الغاشمين صغار النفوس لدك أسوار الإيمان من قلوب الناس، ولكن رغم كل أساليب القمع والإرهاب والتنكيل ، وجد من يصيح بكامل حريته (( أنا مسيحي )) وعرفت المدينة عددا من المناضلين وبينهم بعض اللاهوتيين الذين وقفوا كسد منيع ضد التيارات المعادية وردوا بموضوعية على الهرطقات والبدع الديصانية والآريوسية والنسطورية ، وقد ترك أولئك الجهابذة بصمات خالدة في صفحات تاريخ الإيمان الأرثوذكسي . 
ومع فجر المئة الرابعة كانت المدينة مزدانة بعدد كبير من الكنائس والمؤسسات الدينية ، وتسنى للمطران قونا أن يجدد بناء
الكاتدرائية سنة 313 م ويأتي هذا بعد الأمر المشهور الذي صدر في ميلانو – إيطاليا سنة 312 والقاضي بمنح الحرية الدينية كاملة للمواطنين في الامبراطورية ، واحتوت هذه الكاتدرائية فيما بعد كما يقول التقليد على ذخائر  القديس الشهيد مار توما رسول الديار الهندية.
 وسيطرت التعاليم المسيحية على الحياة الاجتماعية في المدينة وتوابعها ، وبرزت أسماء عديدة لعلماء وكتاب وشعراء وفلاسفة وقديسين ، وانتعشت المدينة وسكانها وكل الأقاليم المجاورة بأفكارهم النيرة ومواقفهم المشرفة في مجالات العلم والمعرفة والحضارة والتراث ، وسطر الكثيرون منهم صفحات ناصعة في الحركة الثقافية ونذكر في هذا المجال ططيانس ( 180 م ؟ ) صاحب الدياطسرون – الأناجيل المختلطة – الذي عاش في أوساط رهاوية ،وبرديصان ( 222 ق.م) السرياني الفيلسوف الكاتب الفذ والشاعر الموهوب الذي ترك مؤلفا فلسفيا بعنوان (( شرائع البلدان )) وأناشيد نظمها على نسق المزامير ، وهو من مواليد الرها في 11 تموز 154 م ، وهرمونيوس وعويذا ، وجاء مار أفرام شمس السريان وكنارة الروح القدس 373+ فخلد حضارات بلاد الرافدين في قصائده  وميامره وأناشيده ، وما زال أثره كبيرا في اللاهوت والتفسير والشرح والتصوف ، وقصائده مبعثرة في عشرات مخطوطات أمهات المكتبات العالمية المشهورة ، وبعده ظهر  تلاميذه منهم : آبا و اسونا وزينوبيوس .
وفي القرن الخامس لعب مار رابولا القنسريني المولد ومطران الرها ( 435+) دورا هاما في حياة المدينة على مختلف الأصعدة ، وشهد له أعداؤه بمواقفه النبيلة وتقواه وغيرته ويحكى أنه لم يبن كنيسة ولكن شيد مؤسسات اجتماعية  واهتم بالمرضى والفقراء والمحتاجين .
 وفي هذا المجال لا نستطيع أن ننسى دور مدرسة الرها وخريجيها الفطاحل من أمثال نرساي النوهدري الشاعر الملفان
 ( 503 م ) وما يعقوب السروجي ( 521 +)من أشهر شعراء السريان ، والملفان السرياني ما اسحق الأنطاكي ( 491 م ؟)واسطيفان ابن صوديلي ( 510 م ) والقديس المعترف مار فيلكسينوس أسقف منبج ( 523 م + ) وأخيرا مار يعقوب الرهاوي الفيلسوف والنحوي والشاعر والمؤرخ اللاهوتي المعروف ( 708+) وبعد القرن الثامن بقيت الرها معطاءة في مجالات مختلفة ، وأدى رجالها من اكليروس وعلمانيين خدمات جليلة للملة والوطن والكنيسة ، ولدينا سلسلة طويلة لأحبارها وردت في تواريخ سريانية بقيت متواصلة حتى أوائل القرن الحالي حيث ختمت صفحة هذه الأبرشية العريقة بهجرة سريانها إلى حلب ، وكان آخر مطارنتها مار قورلس منصور المارديني 1919-1924 .

 *************************

(2)

يين الحقيقة والرأي  

 أ – الماضي والحاضر : عندما نقرأ (( القافلة الأخيرة )) نتصور الرها كزيتونة جذورها عميقة وأغصانها وارفة الظلال ودائمة الاخضرار . والمؤلف الأديب يوسف نامق  يريد أن يجسد في كتابه القول الشائع : (( إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها )). فوقائع هذا الكتاب تدخل ضمن الإطار التاريخي للرها واحدة من أمهات مدن بلاد ما بين النهرين ومشاهد وصور سلسلة الأحداث المأساوية منها بشكل خاص ، بدءا من الحرب العالمية الأولى ومرورا بما أصاب الشرق من أمواج جارفة من الآلام ، وزوابع صاخبة من نكبات ، وانتهاء باستقرار أحفاد أفرام السرياني العظيم في حي السريان بحلب ، ما هي إلا عناصر جديدة تدخل في دائرة السياسة  والاقتصاد والدين ، وتدور في فلك الحرية أو الاستبداد ، وتعطي تفسيراً واضحاً وشرحاً وافياً لما وقع من تغيير جذري في البيئة الاجتماعية والحياة العامة.
والسريان من كل المذاهب ، وبعد كل ما حل بهم من انقسام وتشتت وتشرذم وتباعد في المسافات والرؤى ، بحاجة ماسة إلى تجديد تاريخهم بالتدوين أولاً ثم بالتعليل.
فتاريخهم المصنوع بيد المستشرقين لا يمثل حقيقة أمرهم ، كما لا يدعو  إلى التفاؤل
 كثيرا ، خاصة إذا دخل عنصر التبشير المذهبي مادة مهمة في مصادر تاريخهم .

ولكن ماذا  يريد أن يقول الملفونو نامق لأحفاد الأباجرة ؟ . قد يكون من الخطأ بمكان أن نبني استنتاجاتنا على موقف معين أو فكرة يتيمة يوردها المؤلف ويعلق عليها ليوضح مسيرة الحياة عند الرهاويين . علما أن طرحه لبعض المواضيع الحساسة يبقى في رأينا مدخلا لدراسة أعمق وأوسع وأكمل في المستقبل، ونعطي مثلا هجرة المسيحيين المشرقيين قبل وبعد الحرب العالمية الأولى . وقد نحتاج في هذا المجال بالذات إلى المزيد من البحث والاستقصاء والتفتيش في أرشيف مكتبات الشرق والغرب، لنكتشف أجوبة لأسئلة منها : هل الدوافع وراء الهجرة هي مجرد توجهات وتطلعات لتغيير المكان والوجوه وربما النظام السياسي ؟ أم هنالك محاولات جادة للبحث عن الهوية وتحديد مقومات الجماعة التي ينتمي لها الفرد ؟ لقد ذوب الاستعمار العثماني كل فكر يدعو للتجمع على أساس عرقي أو حتى مذهبي ، وفي عهدهم رفض المسيحيون أن يعدوا من بين الأقليات المطحونة ، بالرغم من أن ادعاءات الغرب كانت تدعو دائما إلى الاحتماء به والولاء له بدل أن يكون للأرض والوطن ، وموقف الكنيسة الوطنية كان واضحا ودعوتها كانت لنبذ الفتن ومحاربة التعاليم الغريبة وعدم التساهل مع من يصطاد في الماء العكر . ومع كل هذا لم يظهر في تاريخ المنطقة الحديث منه خاصة ، أي إعلان مسيحي بحت يرفض نظاما سياسيا ، رغم محاولات أفراد لعبوا دورا هاما على ساحة الفكر وأدت خدماتهم وأفكارهم إلى نتائج إيجابية كان فيها الخير العميم للوطن . ولهذا أيضا لا ننكر أن الغالبية الساحقة من المسيحيين في هذا الشرق فضلت أن تبني لنفسها مجتمعا جديدا خاصا ، له صبغة روحية عميقة وبعد تراثي كنسي أغلبه مرتبط بالقرون الغابرة ، ولكن دائما يتمحور حول رئاسة الكنيسة ، ولهذا أضحت الكنيسة مرجعا لهم في كل مجالات الحياة وبقيت العلاقة بين المسيحيين والسياسة ضعيفة جدا لأن قيادتهم كانت روحية محضة ، وكل أشكال الإصلاح الداخلي والخارجي كان يراد به في الواقع الكنيسة ورجالاتها 0
 لا نقف في صفحات الكتاب على دور قيادي لسياسيين سريان متمرسين تبنته الكنيسة وانتهجته في مسيرتها الطويلة خلال كل الأحداث التي يصورها لنا المؤلف بريشة صادقة .  وإذا ربطت الكنيسة نفسها بالدولة في مناسبة ما ليس إلا من باب التأكيد على أنها جزء من  المجتمع العام . وعندما نقول هذا لا يغيب عن بالنا اتجاهات أخرى برزت على ساحة الكنيسة كانت لها دوافع ما زالت بعضها مجهولة حاولت الابتعاد عن الكنيسة والارتباط بفكر حر ونسميه عادة بالتيار العلماني وأخذ  يبحث في الهوية والذات ويدعو إلى التعامل معها بدلا من رجال الدين .
 في (( الوقفة مع الماضي القريب )) نستدل من الأحداث في أوائل القرن العشرين المقرونة بالصخب والفوضى أن للحوادث جوازا لا يمكن التنبؤ به .
والمؤلف يفترض أن تكون الحقيقة الإنسانية والاجتماعية معبرة عن سلامة قلب شعبه ومحبته للوطن وعمله لخيره وصالحه ، ولكن (( البلبلة المصطنعة )) والإشاعات المغرضة الداعية إلى تضليل الشعب الحريص على البقاء في أرض الوطن أعطت لمؤيدي فكرة الهجرة الفرصة السانحة لأن يدخلوا في (( حوار مغلق هادئ مع كبار رجال الدولة في أورفة من أجل الرحيل )). بعبارة أخرى نحن نواجه مؤامرة تهدف إلى اقتلاع الشعب البريء من جذوره وتشريده في أرض الله الواسعة . ولا يحق لأحد  أن يسجل هذا الكلام الخطير في صفحات تاريخ شعب إلا إذا كان واثقا من مصادره .
ما يهمنا أن نعرفه أولاً : أن التركيز هو على أرض الوطن الغالي ، أرض التراث والحضارة والعطاء ، والارتباط بالأرض هو من أقوى مقومات ديمومتنا ، وثانيا : الشعب كان بريئا مما خطط له ونفذ .  ولهذا نقول أن الهجرة الجماعية لا علاقة لها بالقضاء والقدر ، بل جاءت تنفيذا لرغبات ومخططات بعيدة عن الروح الإنسانية ، ومطامعها البعيدة المدى كشفتها الأيام ، وما الرجال الذين تصدروا واجهة الأحداث سوى دمى كرتونية أدت دورها بشكل متقن ونالت لعنة الأجيال لأنها كانت جاهلة وغبية .
وأهمية هذا الكتاب تتجلى في أن مؤلفه شاهد عيان للحدث التاريخي الهام الذي فتح صفحة جديدة في حياة الرهاويين . فالرحيل عن أرض الجدود كان آخر ما تفكر به الجماعة بأسرها ، ومع الرحيل يكشف لنا الملفونو نامق اهتمام الرهاويين بالأمانة والرسالة ، فإيمان الآباء والجدود ، وطقوس والحان الكنيسة ، والمخطوطات والآنية الكنسية ، ما خف وزنه وزادت أهميتة ، حملوها معهم لتبقى شهادة لهم في أرض سورية المعطاءة وهي التي أبعدتهم عن إغراءات ووعود الذئاب المفترسة والوحوش الكاسرة التي رأت في السريان المهجرين البائسين صيداً ضعيف الجناح فأرادت أن تزيد من جراحاتهم فتخطفهم لتغير معالم حضارتهم .
 في رسالة العلمانيين العاملين في مجالات الإدارة والتربية والمال دليل على دور العلماني في مسيرة الحياة الكنسية ، وهذا تقليد شريف سارت عليه كنيسة انطاكية السريانية عبر العصور ، وتناقلته المجامع العامة والبطريركية وأصبح مادة مهمة في دستورها ونظامها ، فإذا كان انتخاب الأساقفة والكهنة يعود بالدرجة الأولى لصوت الشعب الحي ، فكم بالأحرى أن يبقى الاشتراك بين الاكليروس والعلمانيين رمزا لوحدة الكنيسة ؟ ومن هنا التركيز على النشاطات في مختلف المجالات التربوية والانسانية والكشفية والرياضية والعمرانية التي يؤديها الرجال والنساء على السواء.
ومن الملاحظ أن الكنيسة كمبنى والمدرسة ، هما في مقدمة أولويات مشاريع الملة . الكنيسة شاء الرهاويون أن تحمل اسم الشهيد مار جرجس شفيع إحدى الكنيستين في الرها ، وتكون مطابقة في طرازها الهندسي للكنيسة الأخرى التي كانت باسم القديسين مار بطرس ومار بولس .                                 

    المطران يوحنا ابراهيم متروبوليت حلب

 

 

 

 


قنشرين كافة الحقوق محفوظة 2004 -2011


Qenshrin.com
Qenshrin.net


 
All Right reserved @ Qenshrin  2004- 2011