“مدفنٌ شاسع”
في الرابع عشر من شهرآب عام 2005، وقبل يومٍ واحدٍ من انتقال والدة الإله مريم العذراء، يعيش كل الشعب اليوناني قيامةً، وكل جزيرة قبرص تغرق في الحزن مرَّةً أخرى بعد تحطُم طائرةٍ مدنيَّةٍ قادمةٍ من جزيرة قبرص إلى أثينا بعد ساعتين تقريباً من تحليقها في الجوّ ومن دون قيادةٍ في جبل غرامّاتيكو الذي أصبح أسود. ليس هناك أهمية لأسباب التحطُّم، ومن هو المسؤول، وكيف تحطّمت، مايهمُّ هو أنّ مئةً وواحداً وعشرين شخصاً لفظوا أنفاسهم الأخيرة جميعاً في ضواحي مقاطعة أثينا، في مثل هذا اليوم وبمأساوية وظلم مطلقين.
أُخبِرتُ بالحادث وانطلقت إلى مكان تحطُّم الطائرة بقلبٍ مقطع، ووصلتُ في الثانية إلاّ عشر دقائق تقريباً، وبعد أقل من ساعتين تقريباً من تحطّم الطائرة. تقدَّمتُ مسرعاً، لم أكن أريد أن يستقبلوني كشخصية رسمية لكن هذا ما حصل. جاء المسؤلون لإطلاعي على مجريات الحادث ووجدتُ وسيلة لتجنب انشغالهم بي كثيراً، ولأنّي كنت مقتنعاً أنَّي لا أستطيع أن أقدم شيئاً مفيداً هناك. ولم أكن أريد أن أجعل حضوري ليس فقط غير نافع، بل ألا يكون مؤذياً بالأكثر.
لقد كانت التعبئة العامة لوحدات الإنقاذ مذهلة، العشرات من سيارات الإسعاف، وحداتٌ من الجيش، وحداتٌ من الشرطة والإطفاء، جمعٌ كبيرٌ من الناس، وتسود حالةٌ من الهلع والذعر الحقيقيين. نشاهد أمامنا حطام الطائرة، وهناك دخانٌ وألسنةٌ من النار المشتعلة لسببٍ مجهولٍ، وطائرات الإطفاء والهليكوبتر تقوم بمحاولات مكثّفة لإخماد النار. وأيضاً نشاهد أجساداً مقطعةً ومتناثرةً، وكأن التشويه الناتج عن شدَّة التحطّم لم يكن كافياً، لكنّها تحوَّلت إلى رماد. أجسادٌ بشريةٌ ليست ميتة فقط أو مشوَّهةً، بل اختفت كلياً من الوجود. ليس من الصعب التعرُّف عليها فقط لكن لا يمكن إقتفاء أثرها.
حالما وجدتُ الفرصة المناسبة، جانباً لبعض الوقت. الساعات تمر والنار لم تنطفئ بعد. عددٌ قليلٌ من الناس يقوم بمحاولة إطفاء النار يقتصر على القوات الخاصة على الأرض والطيارين من الجو أما البقية فكلُّنا متفرّجون، وأنا واحدٌ منهم. والأشخاص الآخرون على استعدادٍ وفي وضع الجاهزيّة ينتظرون مجرَّد إعطاء الإشارة للمساعدة. لم يكن لوجودي هناك أيُّ سببٍ فليس لديَّ ما أقدمه للمساعدة. لكن ناراً كانت تلتهب في داخلي، ووجداني الداخلي مقطع. حزنٌ، ألمٌ، شكوى..، يتعذب فكري من محاولة تحديد معالم الفاجعة من جهة، وطرح الأسئلة الملحة من جهة أخرى. إنَّ إيماني ولمرةٍ أخرى في حالة نزاعٍ، وأنا أسمح بذلك لا بل ربَّما أنا من أثار ذلك.
هل إله الكتب الدينية والتربية السائدة التقليدي غائب مذنب أم هو المسؤول عن كلّ شيء؟! أهو غير موجود في الحالتين الأوليين؟ تكاد تفقد صوابك بسبب التناقض والشعور بسيادة الشر في العالم. البشر كائنات تعيسة، فهم أدواتٌ يتحكم بها إله غير مبالٍ، لا بل ربما شرير. وفي الحالة الثالثة تنهار بسبب الشعور بالوحدة الرهيبة فكلُنا وحيدون بفظاعة في هذا العالم الشاسع، ضحايا وظروف وحوادث عشوائية، ودون أيّ مساعدة في البحر الهائج العاصف بالمأساوية العشوائية، بالبداية الظرفية والنهاية المؤكدة التي لا هوادة فيها، كحدث لا مفر منه، غير محدود بالنسبة لزمنه وأسلوبه، فكلُنا سنموت لكننا لا نعرف كيف ومتى. لا أحد منا يمكنه أن يسيطر على أيّ أمر يتعلق بموتنا. وحتى التحليل الطبي يعمل وفق نسب وإحصائيات واحتمالات، وهذا يجعل النهاية أكثر مأساوية. خاصة عندما تسبقها حياة جميلة.
في النهاية أين هو الله؟ ومن هو الإله الحقيقي؟ كيف يمكننا أن نرى الله في مثل هذا الحدث؟ وإذا كان مثل هذا الإله غير موجود، لماذا تكون نهايتنا مأساوية؟ لماذا يكون الموت المفاجئ الجماعي مفجعاً جداً وغير مألوف في طريقته؟ لماذا يكون من الأفضل أن يموت شخص ما في الخامسة والتسعين من عمره أثناء نومه، اما الذي تنتهي حياته بتحطم طائرة فوق جبل بصحبة أولاده وزوجته فيُعتبر موته مروّعاً؟ مأساويةٌ هي بدايتنا وأكثر مأساوية هي حياة الإنسان الفانية، والأكثر طغياناً واستبداداً هو فكرنا.
يجب أن يكون الله موجوداً في مكان ما، ولكن ليس من السهل ملاحظته، فإذا لم يكن الله الحقيقي موجوداً هنا في جبل غرامّاتيكو فهو غير موجود في أيّ مكان آخر. صلّيتُ داخلياً في قلبي. وضعتُ يدي في جيبي وأمسكتُ مسبحتي الصغيرة، ودون أن يدري أحد من الموجودين تركت نفسي تسير في طريق الأمل الشائك والمؤلم، تنشد قليلاً من التعزية.
لا تزال النار خارج السيطرة، فاقترب منّي المسؤول عن عملية الإنقاذ:
ـ أنا سعيدٌ جداً بالتعرف إليكم يا صاحب السيادة، فقد سمعت الكثير عنكم. إنّ حضوركم هنا في هذا المكان لمؤثرٌ جداً، في الغبار والقلق والإنفعال والألم.
هذا اللقب الرفيع، والذي سمعته من المسؤول غير ضروري، وغير لائق، لا بل هو متكلّفٌ أمام ضعف البشرية بكل عظمتها، وما زلنا نتخاطب بألقاب مبالغ بها وكلمات طنانة!
ـ أين عليّ أن أكون موجوداً؟ تجرأتُ على سؤاله… فأنا مدركٌ أني أسوأ الجميع وغير مفيد وإن كنت أنت تعتقد غير ذلك. أجلس هنا وأفكر. الجميع هنا يعرف ما هو دوره. على رجال الإطفاء أن يخمدوا النار، ورجال الشرطة أن يحرسوا منطقة الحادث، ورجال الجيش يذهبون إلى حيث تستدعي الحاجة، والمسؤول المحلّي في المنطقة والمقاطعة يقوم بتنسيق العملية بأكملها، وحتى الصحفيُّون يقومون بنقل الأخبار، أما أنا فماذا أقدّم؟ لا شيء مطلقاً، فعلياً أنا الأقل نفعاً هنا. ببساطة أنا هنا لأنه لا يسعني البقاء في بيتي بعد أن علمتُ بالخبر، فماذا عساي أفعل؟ هل كنتُ سأجلس في غرفتي أستمتع بعذوبة هواء المكيّف، أو أجلس أمام التلفاز لأتابع ماذا تفعلون أنتم هنا؟ لم أستطع أن أقوم بذلك.
ـ ما هذا الذي تقولونه ياصاحب السيادة؟ فأنتم مصدر إلهام لنا، نأخذ منكم قوة. نشاهدكم فنتقوى.
ـ إن أمراً واحداً يبرّر قولك هذا، فالأشخاص لا يتقوّون بالأقوال وبظهور المسؤولين أو حتى بحضورهم، بل يستمدون قوة من الأعمال. إنّ الجزء الأعظم من الأعمال هنا يخصكم أنتم حصرياً. والأمر الوحيد الذي أقوم به هنا هو الصلاة لأجل راحة نفس هؤلاء الأشخاص الذين خسروا حياتهم قبل وقت قليل في هذا المكان، وأن أقول كلمات قليلة لكل أقاربائهم الذين تتقطع قلوبهم في هذه اللحظات.
لكم جميعاً هذا اليوم، يوم الاحد، برامون عيد رقادة السيدة العذراء، حيث أن معظم سكان مدينة أثينا في إجازة، أما أنتم فبدل أن تكونوا قرب أولادكم، تشاهدون جثثاً مجهولة مشوهة وفظيعة المنظر. وبدل أن تجلسوا في منازلكم، أنتم الآن تبذلون جهداً عظيماً، تصعدون قمة الجبل، جبل غرامّاتيكو، وتنزلون رغم الغبار. أساساً أنا موجود هنا كأسقف لأقول لله لماذا حدث هذا؟ بكل ما أوتيت من قوة، بأشد عتاب يمكنني التعبير عنه. ليس أنتم، أو الأقارب، بل أنا كأسقف المنطقة أتحدث عن محبة الله، عن عظم قوته، عن عدالته، أين محبته؟ أين عدالته؟ لا أرى سوى الجثث والحطام، لهذا أتيت إلى هنا، لأقول “لماذا” كردة فعل عمَّا حصل ولكن أقول “لماذا” بطريقة تعبّر عن الإيمان والتواضع وليس التذمّر.
المحبة أمرٌ رهيبٌ! تودّع في المطار أشخاصاً أعزاء على قلبك، يسافرون في رحلةٍ بمناسبة عيد رقاد العذراء مريم، تصلّي ليهبهم الله التوفيق في الرحلة. تتهيأ للعيد دون أن ترتاب أنّ أمراً سيئاً سيحدث، ثم تعلم بحادث تحطُم طائرةٍ تابعةٍ للخطوط الجوية القبرصية في أثينا. الفكرى الأولى التي تخطر على بالك هي أن الحادث وقع لطائرةٍ أخرى إذ إنّ هناك رحلات يومية كثيرة، ولا يُعقل أن تكون الطائرة نفسها التي على متنها أحباؤنا ولكن يبدأ قلقنا بالإزدياد، ثم نكتشف أن الطائرة المتحطمة من شركة الطيران التي سافر عبرها أحباؤنا، فيتعاظم قلقُك، ولكن يبقى لديك أمل بأن تكون رحلة أخرى. تضيق الأمور بصورة لا يمكن تحملها عندما يصلك الخبر أن رقم الطائرة المتحطمة هو رقم الطائرة التي لا تريد أن تسمعه بأيّ شكل من الأشكال.
عندئذٍ تحاول أن تحتفظ بأملٍ ضئيلٍ جداً لنجاة أحبائك، حتى لو أنّ هذا نادراً مايحدث. ستساعدنا العذراء في مثل هذا اليوم، هل من الممكن أن تتركنا؟ بعد ثلاث ساعات تقريباً، كان عليّ أن أغادر المكان لحضور الغروب الاحتفالي لعيد رقاد السيدة العذراء مريم. لم تكن لديّ الرغبة الكافية، لكنّي كنت بحاجة إلى الذهاب إلى صلاة الغروب. هناك صراعٌ بين طبيعتي البشرية وإحساسي وتفكيري العقلاني مع إيماني بالصورة “الاخرى لله” صورة الله الممجَّد على الصليب، والذي من قبره يهب الحياة. الذي يغبط ” الباكين”، ويختار ” الآخرين” والمظلومين، والخطاة التائبين. الذي بنى كنيسته بدمه، وبدم تلاميذه الشهداء نشر تعليمه، الذي يُظهر باستمرار حياة أبدية، فهو يلغي بالجوهر فظاعة الموت. كم أنا فخور لأني ولدت أرثوذكسياً! إنّ كل ماتعلمته في الأرثوذكسية يقنعني بالحقيقة الموجودة فيها، وهذه الحقيقة حِكرٌ على تعليم الأرثوذكسية، وتقليدها وحياتها، ولا يمكن أن تجد منطقاً يماثلها في أي مكان آخر. في خضم قلقي، انطلق تمجيد صغير ولكنه قلبي وعفوي. اختلطت الدموع بالأمل، وفي الظلام المرير لا حظنا نوراً بهياً. كل شيء في الأرثوذكسية عظيم لكن في وقت الألم يصبح ضئيلاً في نظرنا.
في اليوم التالي وصل الأقارب من انحاء اليونان ومن قبرص إلى مطار أثينا ليساعدوا في عملية التعرف على جثث الضحايا. إنّ فظاعة الحدث تجعل الجو مشحوناً جداً، فالفظاعة مستمرة والألم يزداد مع مرور الوقت. أكثر من مئة وعشرين شخصاً معاً في قاعةٍ كبيرةٍ تزخر بالمحبة والعناية.
حَضَرَ السفير القبرصي في أثينا وثلاثون معالجاً نفسانياً والأشخاص المسؤولون عن الحادث، وجميعهم يعانون ألماً لا يُطاق. بعضهم قام بتجربة التعرّف إلى الجثث في المشرحة وعادوا، والبعض الآخر ينتظر هذه اللحظة الحاسمة والصعبة. طلب إليّ المدير العام في وزارة الصحة أن أذهب مع بعض الكهنة لتقديم التعزية والدعم المعنوي لأقارب الضحايا، ولكن أيُّ تعزيةٍ ومساعدةٍ سنقدم لهم، تساءلت؟ ومن يستطيع تقديم مثل هذه الأمور؟ من يعرف الإجابات الصحيحة ولايكشفها لنا؟ من لديه القدرة على إعادة هذه النفوس المقطعة إلى حالتها الطبيعية السابقة، أن يبني من جديد ماتحطّم، أن يقيم من قُتِل؟
كيف ولماذا ينتظر هؤلاء الناس شيئاً مني ومن الكنيسة؟ لكن أيضاً موقف الأطباء النفسيّين أصعب. بمقدور الأطباء أن يصمتوا عن الإجابة. أن يبكوا ببساطة، ويتعاطفوا مع المصابين، أن يصغوا إليهم، أن يقدموا لهم محبتهم، أن يقدموا صلاة بسيطة سرية من أجلهم. أمّا الأطباء النفسيّين فعليهم حتماً أن يقولوا شيئاً ما أو تفسيراً، عليهم القيام بشيء ما.
جلستُ في الزاوية وتركتُ نفسي ترحل من جانب الأشخاص المتألمين لتستند على المسيح المصلوب أبدياً. بعد مرور ثلاث ساعات تقريباً، والجميع قد انهوا عملية التعرف على الجثث وعادوا مصابين بالذهول والصدمة. جلسوا يميناً ويساراً منتظرين أن يمضي الوقت لكي يصعدوا إلى الطائرة ويعودوا إلى قبرص ليتحضروا للجنازات الجماعية. بعضهم يتمشى بعصبية، والبعض الآخر يدخن بشراهة، وبين الحين والآخر تسمع تنهدات أم فقدت ابنتها وصهرها مع أولادهم الثلاثة.
إنه لوجعٌ لا يمكن وصفه بالكلمات، شديدة الوطأة بحيث لا يمكن استيعابه. طلب بعض أقارب الضحايا قبل ان يغادروا أن نصلي صلاة تريصاجيون من أجل راحة نفوس الضحايا. عبر بعض المعالجين النفسانيين عن تحفظهم لأنّ أمراً كهذا يمكن أن يؤثر سلباً على الأشخاص المرهفين.
أعلن السفير أنّ صلاة التريصاجيون ستتم، وبإمكان من يريد المشاركة أن ينضم إليهم. أطفأ الجميع السجائر ونهضوا واقفين دون استثناء واقتربوا من الوسط. جميعهم أرادوا المشاركة في الصلاة. لم يكن داخلهم أيُّ غضبٍ تجاه الله، لكن طالما لم يسستجيب لصلواتنا قبل الحادث فلأي سببٍ سيستجاب لها الآن، ولا نستطيع أن نتأكد من مفعول صلاتنا!
بدأ التريصاجيون وجلستْ أمامنا أختُ قائد الطائرة وزوجته. رتَّل الجميع التريصاجيون بتنهداتٍ، والأمر الأصعب بالنسبة لي، وكنتُ أتوقع حدوثه، هو أن يطلبوا مني أن أقول كلمات معزية، وبالفعل صدق حّدسي، فطلب إليّ المدير العام للخطوط الجوية القبرصية أن أقول كلمات معزية.
تجنبتُ الكلام العلني . قلتُ أننا أتينا كلنا للوقوف بجانب أقرباء الضحايا لا لنعزيهم ـ طالما نحن أيضاً نحتاج إلى من يعزيناـ ولكن لكي نشاركهم وجدانياً ونتقاسم معهم، بقدر استطاعتنا، ألمهم الثقيل الذي لا يمكن حمله. كان بودّي لو استطعتُ مرافقتهم إلى قبرص، لكن أمراً مماثلاً كان صعب التحقيق على أرض الواقع، فوعدتهم أني سأزورهم في ذكرى الأربعين.
وبالفعل قمتُ بزيارة أقارب الضحايا في قبرص في ذكرى اليوم الأربعين للصلاة من أجل راحة نفوس موتاهم. تمَّ القداس في قبرص. كانت الكنيسة تكتظُ بالمؤمنين. نظرتُ من الباب الملوكي باتجاه صحن الكنيسة ووجدت كل من في الكنيسة متشحاً بالسواد. ستة عشر شخصاً من المكان نفسه، وفي اللحظة عينها يدخلون القبر معاً. ألمٌ لا يطاق، لا يمكن وصفه ولا الإجابة عليه.
بعد انتهاء القداس ذهبنا إلى المقبرة برفقة الآلآف من الأقارب والأصدقاء والمعارف، لنصلي التريصاجيون هناك. أحاط الناس بالمدافن المغطاة بالزهور. كان المشهد مروعاً. ثلاثة قبور متجاورة، وفي القبر الأول والدان مع أطفالهما الثلاثة الصغار، وفي الثاني زوجان شابان مع اولادهما الاثنين، وفي القبر الثالث والدان مع طفلهما الوحيد، وبجانبهم تجلس جدةٌ مع حفيدها في أحضانها، عمره ثلاث سنوات تقريباً، وربما لن يستطيع أبداً أن يسترد في ذاكرته الصور الجميلة لوالديه وإخوته.
إن لم أكن مخطئاً، فعدد الجدات والأجداد الذين هم على قيد الحياة اثنا عشر، وكنيستنا الأرثوذكسية ترتل ” مغبوط السبيل الذي تسير فيه اليوم. فإنه تهيّأ لك مكان الارتياح”. فإذا افترضنا أن هذا مانرتله للراقدين، فماذا يمكننا أن نرتل للذين هم مازالوا على قيد الحياة.
لكنهم راقدون؟ صلّيتُ بحرارةٍ وعلى قدر استطاعتي. كان كل تفكيري وإيماني ونفسي، يبحث عن مكان للراحة. من الصعب الصلاة في مثل هذه الظروف. كيف يمكن للقلب أن يتحدث مع الله غير المنظور؟ فالأحداث، الواقع، العقل ، المنطق، كل العوامل الخارجية المؤثرة توحي أنه: إما أنه إله لا وجود له، أو إله فقد السيطرة على العالم، أو إله طاغيةٌ مستبدٌ، مؤذٍ، ولا نريد وجود مثل هذا الإله. إله المحبة، الكلّي القدرة أين هو؟ والإلة الذي حطّم الموت بقيامته، أين هو؟ ذاك الذي نريد أن نصلّي له لكي ينيرنا ويقوينا، لماذا سمح بهذا السوء؟ لماذا لا يُجيبنا؟ أين هو؟ يخاف معظم الناس من هذه الاسئلة وينفر منها، والبعض الآخر لا يطرحها فقط بفلسفةٍ صلبةٍ، وتكبُّرٍ وغرورٍ هائلين، بل وبجرأةٍ جاحدةٍ وغير لائقةٍ لا تترك مجالاً لتساؤلٍ بريء ينير ظلمة العقل.
أما الأقارب فمن شدة ألمهم لم تكن لديهم الجرأة على ان يطرحوا في داخلهم مثل هذه الاسئلة رغم أنهم يعيشون ذكرياتهم المرة. أما أنا فلا أستطيع أن أتصنّع، ولا أملك الأجوبة السهلة والمباشرة، لكني أسمح لنفسي بالتساؤل، فبدلاً من أن أفكر لوحدي إن كان الله موجوداً وأحدّد مواصفاته، سأطرح السؤال عليه مباشرة. وهو نفسه سيعطيني كل ما أحتاجه وأستطيع تحمله. أعترف بصغري وصغرنا جميعاً، أتواضع وأصلّي. انتهت صلاة التريصاجيون، وذهبنا بصمتٍ مُطبق لشرب القهوة عن راحة نفس الموتى. وأظنُ أن صمتي لطّف قليلاً نفوس الأشخاص الحاضرين. كان حسناً أني تجنبت البراهين العظيمة على محبة الله والوصف العظيم لملكوته والكلمات الأخرى التي ترددها الكنيسة بتواضع لكنها غير معاشة، ويكررها باستمرار واعظو الكنيسة.
إنه لأمرٌ رهيبٌ أن تحلَّ الأفكار مكان خبرة الحياة، والنصائح محل المشاركة الوجدانية للمتألم، وأن تحل محنة الإيمان بالأفكار والآراء الاهوتية. في لحظة تحطّم الكيان وتعثر الإيمان، فالإنسان لايحتاج إلى تعاليم صماء حول الإيمان، لكن الشك يُفهم كعنصر طبيعي لدى الإنسان. هكذا تصرفت مع الناس وفضلت أن أفتح أذني أن أغلق فمي.
اقتربت مني امرأةٌ مسنةٌ باكية، فقدت ابنتها وزوج ابنتها وأحفادها. لقد انتهت هذه الحياة بالنسبة لها، وتبين أن جمالها زائفٌ. احتضنتني وقبلت يدي بقوةٍ وإيمانٍ عظيمين. حركتها هذه كانت تعبر عن معانٍ كثيرةٍ، ولاأعرف ماذا تنتظر أو عما تريد أن تعّبر.
ـ أنا متألمة كثيراً، ياصاحب السيادة، وأريد أن أرحل عن هذه الحياة. أنا متضايقة جداً، وليس لديّ عتبٌ على الله أبداً، فالله يعطي بركاتٍ فقط. أنا لا أريد أن يرجع أولادي إلى هنا، فليس لهذا أية أهمية بعد الآن. أريد أن أرحل من هذا العالم فقط. ألعلَّ هذه خطيئة؟
تحدّثتْ بلهجة متألمة، ولكن بألمٍ مقدس. فهي لم تكن مجروحة، وذلك لأنها اقتنت تواضعاٍ سرياً، تواضع قبول مأساوية الحدث كأمرٍ مؤلمٍ جداٍ ولا يمكن تصوره بالعقل البشري وإنما ببساطة الإيمان. كانت قلوبنا تعاني من صدمة الحدث، كأنها متوجعةٌ أكثر من قلبها الذي جُرحَ لفراق أحبائها. إن قبولها المتواضع للحدث لطّف بطريقةٍ ما جرحها العميق الناتج عن الفراق. كان تواضعها يعبر عن إيمانها. وإيمانها كان يهبها توازناً وسلاماً. بدا وكأن هذا الجرح الذي أصابها صار مصدر دمعٍ وحسرةٍ وليس دماً. لم اجبها بأيةِ كلمةٍ، احتضنتها وقبلتها على رأسها. بدا هذا كافياً لها. كنت اودُّ لو كان بوسعي أن ألمس قلبها المجروح. نظرَتْ إلى وجهاً لوجهٍ محاولة أن تفهم مابداخلي، أمسكت يدي وقبلتها.
ـ ماذا تريدين مني ياجدتي؟ تجرأت وسألتها.
ـ لا شيء يا بنيَّ، ما أريده منك هو أن تصلي لأولادي ومن أجلي لكي يأخذني الرب في الوقت المناسب وأنا على أهبّة الاستعداد.
ـ ألم تجرحكِ مغادرتهم جميعاً معاً؟
ـ إذا كانوا موجودين في حضرة الله فلا سبب لأن يكونوا معي. على أية حال فالأولاد هم أولاد الله أكثر مما هم أولادنا. ولعلي أحبُ الله الآن أكثر من ذي قبل. فعندما أحاول أن أكون بجانب الله سأكون مع أولادي وبجانبهم أيضاً. هكذا قال لي الأب أثناسيوس.
أتى الكثير من الأشخاص وقدّموا إلي أسماء لأصلّي لأجلهم، وكأنهم لايريدون أي شيء آخر. وجدتُ محبةً واعترافاً بالجميل، من لطفهم وأصالتهم الروحية الرائعة. شاهدتُ سيدة تجلس جانباً كانت قد فقدت ابنتها ولا يمكن لأحد أن يعزيها. وشخصاٍ آخر مسناً كان يدخن غير مكترث بأي شيء، ونظر إلي نظرة لا يمكن تفسيرها واقترب مني وقال لي:
ـ لاتقل ذلك ياأخي. هناك أمرٌ آخر يجري.
ـ هل ترى ياصاحب السيادة ماحدث؟ ما هذا الذي أصابنا؟ اسودَّ كلُّ شيءٍ هنا. أيُّ إلهٍ هو الله؟ ألم يكن بمقدوره أن ينقذ هذه الطائرة؟ لم يكن على متنها أيٌ من أقاربي لكني أكادُ أفقدُ صوابي. ألا ترى هؤلاء المساكين؟ ما معني حياتهم، لماذا يعيشون بعد الآن؟
ـ لماذا نعيش نحن أيضاً في مثل هذا العالم؟ سألته.
بالفعل، إذا كان العالم كما نطلب، وبإله كما نفهمه، عندها لاتستحق هذه الحياة العيش إطلاقاً. بالطبع، حياةٌ محدودةٌ، وإلهٌ يدركه العقل، وعالم يُفهم بالتفسير المنطقي، حياة كهذه ليست فقط لا تستحق العيش، بل لايمكن إيجادها. في مكانٍ ما آخر يحتجب السر. أن تحاول معاينة الله من خلال الألم أمرٌ عبثيٌ، ولكن بدون الله لايمكن فهم الألم، وكذلك لا يمكنك أن تعزّى بإله كاذب.
من الطبيعي أن ترى الألم من خلال الله، وعندئذ تستطيع أن تعرف من هو الإله الحقيقي فعلاً. إنه لأمرٌ عظيمٌ أن كنيستنا تعظ بإلهٍ مصلوبٍ، وصحيح وفيه كل الحقيقة. وأيضاً هو انقلابي وثوري بالنسبة لتفكيرنا العقلاني. إن الكنيسة تعترف بإله هو بالنسبة لليونانيين ” حماقة” ولليهود ” عثرة”. إله مهزوم بإرادته بحيث لايمكن للعقل البشري تحمله. إله ينتصر ويعترف به بتقدمات آلاف الشهداء. إله يهب حياة عندما يُضطهد ويقوم من بين الأموات عندما يُقتل. إله يخلقُ البشر على صورته ومثاله لكنهم يدمرون أنفسهم بأنفسهم، ويذبحون بعضهم بعضاً، وجميعهم ينفصلون عنه. يخلقُ جنساً بشرياً يتمتع بالأبدية لكنه يختار الموت. يخلق جنساً بشرياً ممجداً فيختار الذلّ.
يأتي إلى العالم بتواضع، ويبشر بالسلام على الأرض، فيترافق قدومه بذبحِ الآلاف من الرضع. كيف يمكن تفسير هذه الجريمة؟ وإذا كان الملاك قد أخبر يوسف أن يغادر إلى مصر، فلماذا لم يفعل الخير ذاته أيضاً لإنقاذ كل أولئك الأطفال البريئين من الذبح، وأهلهم من الوجع الذي لا يمكن تحمله؟
يشكّل حادث جبل غرامّاتيكو حدثاً فظيعاً في إطار الحياة الأرضية الفانية الزائلة والباطلة، حدثاً غير عادل ويؤدي إلى طريقٍ مسدودة. أما في إطار الحياة الأبدية لكل إنسان فهو حدث بسيط. فكل من يعيش حياة فانية، يفقد صوابه عندما يفقد أشخاصاً أحباء على قلبه.
وكل من يترجى الأبدية يتوجع بشرياً، لكنه يتعزى ” بما لا يوصف”، يشاهد أحباءه يتمجدون من قبل الله عندما يظلمون، وعندما يرحلون من هذه الحياة يَصِلُون إلى الكمال. ويرى فيهم بوضوح معالم وجه الله، فهو يعيش الأمل المرتجى والإحساس بما هو غير مرئي من خلال الألم.
من كتاب “هناك حيث يختفي الله”
التنضيد الالكتروني: ريتا برايا ـ قنشرين