الولادة: –
الوفاة: 373 م
مار أفرام السرياني إمام اللغة غيرَ مدافع وشاعر السريان المُفلق غير منازع، وصفوة الشعراء المطبوعين أصحاب الإبداع المفتنين في الشعر، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، والكاتب الجيد السبك الحسن الصياغة، أوتي لساناً فصيحاً وبياناً ساحراً وسلك طريقاً لم يكد يُسلك، أحسن فيه متميزاً بغزارة مادته وخصب مخيّلته وفيض قريحته وسعة تصرفه، في طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق فيه فكان الفائز المُعلى وقدحه الأعلى. والغرر والروائع لا تكاد تعدّ في قصائده وأناشيده التي سبق بها وأبدع فيها وحلّق إلى اسمى الذُّرى.
ضمن أشعاره من الأفكار السامية والمعاني النبيلة، ما يحمل به قراءة على الإرتقاء إلى أجواء الصلاح والإستمساك بأهداب الخشوع والعبادة. ذلك أنه كان آية في صدق الشعور والتحمس للدين، وفوق ذلك من علّية الورعين القديسين وقد تمكن حب الله في قلبه حتى بلغ منه كل مبلغ. فنُعت بنبي السريان وشمسهم وكنارة الروح الإلهي وصاحب الحِكم، وأقرّت له النصرانية بالإمامة وهوفي قيد الحياة فتناشدت شعره، واقبلت على تسبيح العزة الإلهية بنشائده العذبة الشجية.
طلع كوكب وجوده في فجر المئة الرابعة في نصيبيبن، من أسرة مسيحية خلافاً لرواية بعض القصص أنه ولد وثنياً ثم اهتدى في زهرة عمره إلى النصرانية. ونشأ خير منشأ ديناً وأدباً فكان على خُلق كريم. وصرم حبل الدنيا في روَق شبابه ولزم مار يعقوب أسقف نصيبين الذائع صيته طهراً وقدساً، فأفاد منه ورعاً وأدباً وعلماً، ورشف من سلافه الأدب السرياني ما جعله فرد زمانه إذ صادف منه قريحة وقّادة وولعاً بالعلم شديداً. وترهب ورُسم شماساً وعلم في مدرسة نصيبين التي أنشأها أستاذه سنين طوالاً مدة ثمان وثلاثين. وخدم خلفاءه الأساقفة بابويه وولغش وابرهيم ونظم ثم طرفاً من أناشيده المعروفة بالنصيبينية وعلا صيته.
سنة 359 إلى أن جلا عن وطنه لاستيلاء الفرس عليه 363 فخرج في اشراف أهله إلى آمد ثم صار إلى الرها فحل بجبلها المقدس نازلاً من نساكه أجمل منزلة. ووسع مدرستها وحسن أثره فيها فبعُد صوتها بفضله وفتح فيها كنوز علمه. فشرح كتاب الله أي أسفار العهدين، وجادت قريحته بجياد القصائد وغُرر النشائد بل نفائس القلائد، التي طوق بها جيد السريان طابعاً إياها بوسمه وطابعه فكانت آية البلاغة، وتخرج به خلق كثير أخذوا عنه.
وكان قدَّس الله ثراه زاهداً متنسكاً له وقار وحلم وسكينة وأصالة، وسجايا جميلة وشيم رضية. ممتازاً في فضائل العفاف والتواضع والرحمة، معتصماً بدينه اشد اعتصام مغالياً في حب الكنسية والإيمان القويم، ناراً ملتهبة تحرق زؤان الهراطقة المضللين، استاذاً حاذقاً وجندياً أميناً على حراسة معقل الأرثدكسية وصفوة القول أن الفضائل بعقدها وسِمطها كانت مجموعة له. وفي 9 حزيران سنة 373 سار إلى جوار ربه وقد ناهز السبعين وبني فوف ضريحه دير بجوار الرها عُرف بالدير السفلي، وتُعيد له البيعة في السبت الأول من الصوم الكبير.
تصانيفه
وصل إلينا من تصانيفه المنثورة شرح سفر التكوين وجزء من سفر الخروج وشذرات من بقية الاسفار متفرقة في مجموعة الراهب سويريوس (سنة 861 +) وكان اعتماده فيها على النقل البسيط. وترجمة أرمنية من تفسيره للإنجيل المعروف بالدياطسّرون، وتفسير الرسائل البولسية ما خلا بعض آيات يسيرة تجدها في تفسير يشوع داد المروزي للإنجيل. وبعض خطب تتضمن شروحاً لفصول من الكتاب الكريم، وقرأنا له فصولاً مختارة من كتاب وسم بكتاب الآراء نوّه به بعض الأئمة وخطابين نقضاً للهراطقة أنفذهما إلى هيباتيوس ودومنس، ومقالين في محبة العلي ورسالة إلى الرهبان ساكني الجبال وأدعية وأّلف قصصاً للرسل بقيت منها قصة بطرس الرسول نشرناها.
ولكن أبرز مصنفاته التي رفعت له اسماً بلغ السُهى، هي ميامره أي قصائده المنظومة على البحر السباعي المنسوب إليه، ومداريشه اعني أناشيده وكلها تدور حول مواضيع دينية، كلاهوت السيد المسيح وناسوته وخوارقه وتعاليمه وأوامره ونواهيه، وبيعته ورسله والشهداء وتفسير بعض فصول الكتاب الإلهي وآياته، والحث على الصلاة والصيام والصدقة والعبادة والورع وصنوف الفضائل. ومنها يتعلق بالرهبان وشكر الله على المائدة والبعث والصلاة على الموتى واحتباس الغيوث وغير ذلك. وحبّر أناشيده في وصف البتولية وأسرار البيعة وميلاد الرب، وابدعها نشيد على الأبجدية يسترق الأفهام ويملك القلوب رقة وعذوبة، ويسحر العقول لما انطوى عليه من حقائق لاهوتية سامية وفي عيد الدنح (الظهور الإلهي) والفصح والقيامة، ودعوة الرسل إلى النصرانية وصفة البيعة الجامعة والإيمان والعذراء والقديسين، وتقريظ بعض افاضل الأساقفة والنساك المعاصرين له كابراهيم القيدوني ويوليان الشيخ، والتوبة وتزييف برديصان والهراطقة ويوليان الجاحد.
ولا نعرف عدد قصائده التي ضاع جانب منها، وذكر له ابن العبري في كتاب الهدايات مئتين وأربع عشرة مشتركاً مع مار اسحق، ولكن هذا العدد لا يشمل الأنخبة من ميامره فرضت قرائتها على خدمة الدين. والمعروف منها 15 قصيدة في الدنح و1 في السعانين و15 في الفطير و5 في آلام ربنا و2 في القيامة وتناول الأسرار في أحد القيامة و1 في أحد الجديد وقصيدة أولها: عظيمة هي قوة المسيح، و2 في حبل العذراء الطاهرة ومار اندراوس الرسول وتبشير بلاد الكلّخ أوالقلتيين و3 في أيوب و2 في مار سرجيس ومار باخوس ومار ديميط و20 في الشهداء، و5 في وفاة الأساقفة والكهنة والشمامسة والرهبان الكاملين والأطفال وكل احد و7 في تركيب الإنسان والخلوة للعبادة والغربة والأخرة والنهاية والتواضع ومحبة اللفضة و 11 في التعازي والآخرة و7 في الطلبات، وغيرها في الحِكم والنصائح والإيمان والعلم والتوبة. و1 في قول أشعيا النبي: فليزل المنافق لئلا يعاين مجد الله، و10 في الشكر على المائدة، و4 في يوليان الجاحد و20 في مواضيع شتى. ونشر له السيد رحماني جزئين حوى أولهما 31 ميمراً وشذرات من ميامر أخرى، في الشكر على المائدة وسقوط نيقوميدية ونقاوة القلب والندامة، وفي أن الله ليس هوعلة للآفات، وعناية الله بنا، والسهر والتوبة والظلم والنساك وأيوب الصديق ومجاهدة الشيطان، ونقض برديصان وحصار نصيبين والتوبيخ وكيفية أغراء ابليس للناس على ركوب المعاصي. واشتمل الجزء الثاني على عدة ميامر انشدها في احتباس الأمطار.
وله قصيدة خماسية نفيسة يخاطب فيها ذاته أولها: كم من مرة جُعت، وصية مشهورة منظومة وإنما حشيت بزيادات ليست من الأصل بشيء ودعاء منظوم.
ودونك المعروف من أناشيده: 87 في الإيمان ورداً على المرتابين، و85 في الجنائز، و76 تحريض على التوبة، و15 في الفردوس الأرضي، و51 في البتولية وفي أسرار ربنا، ومن أحفلها بالفوائد 77 نشيداً تعرف بالنصيبية نظمها بين سنة 350 – 370 بقي منها 70 نشرها بيكل، صاغ عشرين منها في نصيبين مضمناّ إياها ما قاسته هذه المدينة في الحصار سنة 350 وفي اثناء حرب الفرس عام 359 – 363 وقرظ في بعض منها اساقفتها المذكورين آنفاً، وحبك البواقي في الرها، خمسة منها في احداث كنيستها وأربعة في عبادة الاوثان بمدينة حران وفي اسقفها بيطس وخص بعضاّ منها بمدينة هنزيط، والأخيرة بآلام ربنا وقيامته بالبعث والنشور، ومنها أيضاً 15 في ميلاد ربنا، و15 في الظهور الإلهي، و15 في الفطير و52 في البيعة، و56 في نقض الأضاليل و17 في ابراهيم القيدوني، و24 في يوليان الشيخ، و20 في الشهداء، و15 في الوعظ، و18 في مواضيع شتى.
وورد في أقدم كتب الألحان أن مراقي أوسلالم المداريش التي حبكها مار أفرام هي خمسمائة، غير أن أوسعها ما اشتملت إلاّ على 156 وأكثرها لا يزيد على 45 وقد اختلطت بما صُب على قوالبها ومعانيها – ودبّج هذا الملفان أيضاً جانباً من الأناشيد المعروفة بالقالات السهرية والعنيانات بل نُسب إليه تخشفتات وقائسمات على ما تقدم آنفاً واستشهد فيلكسينس المنبجي بكتابين له اسماها فنقيث نقض اليهود والأضاليل وذكره صاحب تاريخ سعرت وفنقيث الشهداء النصيبين وهو مجموعة من مداريشه كفناقيث الإيمان والبيعة والفطير والنصيبيين التي استشهد بها انطون التكريتي ومما صنع عليه كتاب منحول موسوم ” بغار الكنوز ” وهوقصة آدم وحواء بعد أن طُردا من الجنة وتسلسل القبائل الإسرائيلية، من وضع القرن السادس. ونُسب إليه قصيدة من أجود الأشعار في يوسف ابن يعقوب ذات اثني عشر لحناً، وهي في رأي ابن شوشان أما من نسج اسحق أومما حبكه بالاي أسقف بالش، وليست من نظم بعض أساتذة مدرسة الرها في زعم بعضهم. وتجد في المجلدات الثلاثة التي نشرها له الراهب بطرس مبارك والسيد اسطيفان عواد منقولة إلى اللاتينية سنة 1737 – 1743 وحوت من الميامر زهاء ثلثمائة، كثيراً مما وضع عليه، وهو من صوغ بعض تلاميذه أو نظم اسحق أو السروجي أو نرسي أوغيرهم. ونشر له أيضاً توما لامي في مالين، أربعة مجلدات من الميامر والأناشيد سنة 1882 – 1902 وطُبع بعض منها في اكسفرد ولبسيك، والعلماء المعاصرون يتوقون إلى طبعة أضبط وأجود المصنفات هذا العلاّمة.
ووصل إلينا بالعربية احدى وخمسون مقالة نقلت من اليونانية إليها نقلاً فيه الجيد وفيه الملحون حوالي القرن الحادي عشر وأصلها السرياني مفقود. ذلك أن تفسير الكتاب العزيز وغيره من تأليف هذا القديس نقلت في حياته أوفي العشر الأول بعد وفاته إلى اليونانية فطالعها غريغوريوس النوسي الذي قرظه بخطبة نفيسة، وبعضها إلى الأرمنية فالقبطية فالحبشية ثم اللاتينية.
ذهب بعض النقاد المعاصرين أن مار أفرام كان كاتباً في الأخلاق وواعظاً أكثر منه لاهوتياً – وهذا صحيح – وذلك لقلة مؤونة البحث العقائدي في ميامره ونشائده حتى التي زيّف فيها الهراطقة، وإنما على أجنحة قداسته طار لها صيت كان لذيوعها كافلاً. قالوا ويبهرك منه توقد ذهنه وما حفلت به أشعاره من الإستعارات والصور الجريئة البارعة والرسوم الرائعة والرموز، وأدوار المخيلة التي تفنن فيها شأن سائر الشعراء الشرقيين – وهوأسلوب لا عهد لليونان واللاتين به – ولكن حظها من الإبداع وسمو الأفكار والحماسة يسير اهـم.
وقال أخر وهو أكثر إنصافاً ما معناه: “أنه ألّف ما ألّف للشعب والرهبان فلم يتعمق في النظريات اللاهوتية، غير أنه ألقى في عظاته الأدبية من شُعلة الحمية ونار الحماسة ما بلغ بها كنه القلوب، وكل ما دبجه حتى الذي بلغ فيه منتهى الإسهاب، كان في نظر قرائه الأقربين عنوان البيان وآية البراعة، وهل كان الكاتب إلا ابن بيئته ؟”
أما القول بقلة حظه من الإبداع وسمو الأفكار والحماسة فهو اعتساف وشطط، ويجرحه إجماع ذوي الأذواق السليمة على دفعه، وأما الإسهاب في المقال فهو طريقة قلما تعداها، قدماء الكتّاب السريانيين وغيرهم، ولا شك أنه ينافي ذوقنا العصري. وأصح ما يقال فيه ان إدراك بعض أناشيده يستدعي كدّ الذهن وجهد الفكر، وقد استوضح يوحنا الأثاربي 735 + العلاّمة يعقوب الرهاوي عن بعض معانيها، وحبذا لو كان بعض حذاق العلماء القريبين من زمانه عمدوا إلى التعليق عليها وكشف مُبهمها.
نقلاً عن كتاب اللؤلؤ المنثور.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت