الدولة | سوريا |
---|---|
المحافظة – المدينة | ريف دمشق |
الطائفة | سريان كاثوليك |
الموقع على الخريطة | ![]() |
🏛️ خربة تحوّلت إلى معلم سياحي
منذ أن هُجِرَ في وقتٍ ما من القرن التاسع عشر، وحتى عشرين عامًا مضت فحسب، كان مجرّد «خربة» في بادية النبك يأوي إليها رعاة الماعز مع قطعانهم التماساً للدفء وقت القَرّ أو للظل وقت الحَرّ. وهكذا استُهلكت الأخشاب التي كانت تحمل السقف وقودًا للتدفئة، في حين أسهم دخانها في تغطية اللوحات الجدارية الرائعة التي تغطي أروقة الكنيسة الثلاثة.
أما اليوم، ومع أن أقرب مدينة منه، وهي مدينة النبك، تبعد عنه نحو 17كم، فدير مار موسى مَعْلَمٌ سياحيٌّ مميّز: سواء على الصعيد المحلي حيث يقصده سكّان النبك بشكل خاص، ولاسيما في جُمُعات الربيع والصيف للزيارة وتمضية النهار في الهواء الطلق، أو على الصعيد القطري إذ يندر يومٌ من أيام السنة لا تُرى فيه، في الساحة الكبيرة المخصصة لوقوف المركبات على اختلاف أحجامها، عدّة باصات صغيرة (سرافيس) أو كبيرة أو حتى بولمانات حديثة، هذا عدا السيارات الخاصة آتية كلها من كل مناطق وأنحاء سورية.
أما على صعيد استقبال السياح الأجانب فدير مار موسى بات واحدًا من الأماكن التي يأتي بعض السياح، ولاسيما الأوروبيون منهم، إلى سورية من أجل زيارته بالدرجة الأولى، وأحياناً من أجل زيارته فقط. وهو مُصنَّفٌ، في الدليل الأزرق الفرنسي عن سورية Guide bleu de La syrie كمركز سياحي من ثلاث نجوم، أي ما يوازي أهمية قلعة الحصن على سبيل المثال.
إن أهم ما في الدير، من الناحية الآثارية، هو اللوحات الجدارية التي تُعتَبَر الأفضل حفظًا وترميمًا (انتهى العمل في ترميم هذه اللوحات منذ عام تقريبًا) من نوعها في الشرق الأوسط والمنطقة. لكن اللوحات الجدارية ليست كل شيء من الناحية السياحية، فثَمّة سحرٌ فريد من نوعه في طبيعة الموقع، وفي هدوئه وبُعده عن ضجيج المدينة، وفي هواءٍ نظيفٍ عليل، وفي طبيعة الحياة التي تُعاش فيه، وفي اجتماع لأقوام من شتّى البلدان والأجناس والأديان، حيث إن الدير نفسه يصبح ملتقى عفوياً للشرق والغرب، وللمسلمين والمسيحيين، وللكبار والصغار، وللصبايا والشباب، ومَحَلًا لحوار الحضارات يفوق الكثير من المراكز التي تعمل، في أماكن كثيرة من العالم، في هذا الاتجاه.
⛪ القديس موسى الحبشي وبدايات الدير
يَقرن تاريخ الدير باسم القديس موسى الحبشي الذي تروي الأسطورة الشعبية المتداولة أنّه كان ابنًا لأحد ملوك الحبشة في القرن السادس. ترك حياة الترف وفرّ من والده الذي أراد أن يُزَوِّجه، وأتى ليعيش في دير مار يعقوب المقطع القريب حاليًا من قرية قارة التابعة لمحافظة ريف دمشق. لكنه رغب بمزيد من التوحد والنسك فيما بعد، فقادته خطاه إلى هذا المكان حيث أقام في أحد الكهوف، وكان ذلك فاتحة الحياة الرهبانية في ذلك المكان المقفر من البادية.
هُجِرَ الدير نهائيًا عام 1831 ليتحوّل مع الوقت إلى ملاذٍ للرعيان والقطعان، إلى أن أُعيدت إليه الحياة كما أشرنا منذ عقدين من السنين.
🏰 هيكلية الدير
يتألف الدير حاليًا من البناء القديم الأساسي الذي يُرجَّح أنه كان برج مراقبة عسكري روماني قبل أن يأتي موسى الحبشي إلى المكان. ويحوي هذا البناء الكنيسة التي يعود بناؤها إلى العام 450 للهجرة / 1058 للميلاد كما تظهر كتابةٌ عربية لاتزال واضحة على أحد حجارتها، إضافة إلى غرف متنوعة السِّعات والاستخدامات وباحة نُصِبَ فيها بيتُ شَعرٍ على الطراز البدوي يُشعِر المرء أنه قد عاد عقوداً كثيرة إلى الوراء.
كما يتألف من بناءين جديدين، أحدهما مكتمل ويُستَخدَم كغرف نوم للزوار والرهبان على السواء، والآخر لايزال قيد البناء وسيَشتمل في نهاية الأمر على كنيسة صغيرة هي في الأصل كهفٌ متطاولٌ حفَرَته الطبيعة في عمق الصخر، وعلى قاعة للقاءات والندوات إضافة إلى غرف إضافية للنوم وخدمات أخرى.
🌿 حياة الرهبان والزوار
يحدث أن يشعر الزائر للمرة الأولى، ولاسيما الزائر العابر الذي لا يلبث طويلًا في المكان، بمشقة العيش وصعوبة الحياة في مثل هذا المكان المنقطع البعيد الخالي من الكثير من أسباب الراحة والرفاهية. لكنه إنْ يَبقَ مدة أطول فلسوف يختبر على الأرجح مشاعر أخرى من الراحة النفسية والسكينة والهدوء.
فرهبان الدير وزوّاره الذين يشاركونهم حياتهم لساعاتٍ أحيانًا أو لأيامٍ في أحيانٍ كثيرة أو حتى لأشهرٍ في بعض الحالات، يعيشون حياة بسيطة غير متطلبة، قريبة – قدر الإمكان – من الطبيعة، وتتوزع نشاطاتهم في ثلاثة اتجاهات:
العمل: الذي يتضمن أشغالاً كثيرة بدءًا من رعي وحلب الماعز وانتهاءً بكتابة المحاضرات وتحضير الندوات وترجمة الكتب، مرورًا بأعمال البناء وأعمال البيت على تنوعها.
استقبال الزوار: فالزائر الذي يقضي بضعة أيام في الدير يصبح كواحد من أهله، يشاركهم استقبال الزائرين العابرين، وتقديم الضيافة والطعام لهم، وشرح تاريخ الدير والرسومات الجدارية في الكنيسة.
الصلاة والتأمل: ولاسيما في فترة بعد الظهر والمساء حيث يلتزم الجميع الهدوء. يلتزم المسيحيون من الزائرين بالصلاة مع جماعة الدير، بينما يمكن لغير المسيحيين أن يفعلوا ما يرغبون القيام به في جوٍّ من الهدوء واحترام الصمت.
وهكذا فإن حياة شديدة الغنى والتنوع والفرادة تُعاش في مكانٍ كان منذ وقت قريبٍ خالياً من الحياة.
✨ من خربة إلى مركز إشعاع
عشرون عامًا، بل أقل، كانت كافية كي تتحوّل خربة في بادية إلى مركز إشعاع روحي وثقافي وحضاري، وإلى مكان جذب سياحي كبير، وإلى محل يعج بالحياة بكل أبعادها. لا شكّ في أن ذلك تطلّب الكثير من العمل، والكثير من التعب، وجهود أشخاص كثيرين، جهوداً فكرية وعضلية وجهوداً من كل نوع.
ومع أن أشخاصًا كثيرين عملوا على أن يصبح هذا المكان ما هو عليه اليوم، بعضهم وضع حجرًا ومضى وبعضهم ما زال يعمل منذ سنين، بيد أن رجلاً واحدًا كان ولايزال يقف وراء كل شيء، وهو الأب باولو دالوليو.
👤 الأب باولو دالوليو (الراهب بولص)
على الرغم من كونه إيطالي الجنسية فهو يتحدث، كأهلها، لهجة سكان النبك، إضافة إلى طلاقته في العربية الفصحى. وهو إلى ذلك يحب أن يتكنّى باسم “بولص”، وهو اللفظ العربي المقابل لاسم “باولو” الإيطالي.
جاء بولص (الأب الدكتور باولو دالوليو) إلى سورية للمرة الأولى في منتصف السبعينيات، وزار خربة وادي مار موسى أول مرة عام 1982، حيث قضى أياماً من الخلوة والرياضة الروحية في أحد الكهوف المجاورة. منذ ذلك الوقت بدأت فكرة إحياء المكان تجول في خاطره، وفي صيفيات الأعوام 1984 إلى 1991 نظّم الأب بولص حملات تطوعية للبناء والترميم شارك فيها شبّان سوريون وإيطاليون. كان بولص خلالها أول من يحمل الحجارة بيده ويَجبُل الاسمنت، وآخر من يتعب ويكفّ عن العمل في آخر النهار.
واستمر العمل بعد ذلك ولكن بشكل أكثر تنظيمًا بعد أن تأسست جماعة رهبانية تقيم على نحو دائم في المكان. منذ ذلك الوقت والدير يُبنى ويزداد اتساعاً ويفتح للمنطقة وأبنائها، بل ولسورية كلها آفاقًا متجددة، من ندوات وحوارات إلى مشاريع بيئية وثقافية، يقف خلفها ويوجّهها رجل واحد هو الراهب بولص.