الولادة: 154
الوفاة: 222
برديصان، فيلسوف ومنجم وشاعر ومؤسس مدرسة في الرها. إنه صورة أخاذة وفاتنة بسبب فكره وأسلوبه مما جعل التلاميذ يترددون إليه. نَهجُهُ سقراطي وتأثره بالثقافة الهيلينية واضح. نال شهرة واسعة ليس في الشرق فحسب، بل في العالم الروماني أيضا، لربما لأن الرها كانت في زمانه مستعمرة رومانية.
ولد برديصان في الرها، في 11 تموز عام154، في حضن عائلة نبيلة. والده يدعى نوحاما (بعث) وأمه نحشيرام (صيد). درس في الرها، وأخذ علومه العالية من فلاسفة زمانه. من المرجح إنه تعرف على ططيانس! ربما ولد وثنيا ثم اهتدى إلى المسيحية، وهو شاب يافع. قضى برديصان القسم الأول من نشاطه في بلاط أبجر التاسع (197 ـ 216 ) الذي عنى بالفنون والآداب والعلوم. وساهم برديصان في مساعي الملك الثقافية ويعد عملاق الأدب الرهاوي في عصر الملكية. على أثر احتلال الرومان الرها واغتيال ملكها، واقتياد ولديه اسيرين إلى روما. غادر برديصان المدينة إلى أرمينية حيث استقر وانصرف إلى البحث والكتابة لنشر المسيحية والدفاع عنها. توفي عام222، تاركاً ثلاثة أولاد، أشهرهم هرمونيوس.
يقول تايكسيدور(Teixidor ): ((في كتاب اكتشف في بلاط ملك الرها، بعد قرن ونصف، يذكر أنه عرف برديصان في بلاط أبجر، وأنه كان رساما ومهندسا علاوة على كونه مفكراً)).
تآليفه
يُعزى إلى برديصان كتاب في الفلك، وثان في النور والظلام ، وثالث في المتحرك والثابت، ورابع في روحانية الحق، والّف مئة وخمسين ترنيمةً، على عدد مزامير داود، في الكتاب المقدس وأسلوبها، ضمنها آراءه الفلسفية واللاهوتية. وقد انتشرت بسرعة، تعلمها الناس وأخذوا ينشدونها كما يقول مار أفرام. هذه المزامير ضاعت وأُتلفت من قبل معاصريه مع بقية مؤلفاته، ولم يسلم منها سوى ما ينسبه إليه مار أفرام في أناشيده، وكتيب تحت عنوان ((شرائع البلدان)) وقد عنى بإنشائه وتقديمه على شكل حوار تلميذه فيليب. في هذا الكتيب يقدم الكاتب نماذج من شرائع شعوب وبلدان لإظهار مدى تأثيرها على حرية الفرد، متسلسلة من السرديس والهنود في الشرق، إلى اليونان والبريطان في الغرب ويتكلم أيضا عن الشريعة المسيحية وممارساتها.
يصف اوسابيوسَ القيصري برديصان وصفا متميزا قائلاً: ((ظهر شخص يدعى برديصان، وهو شخص مقتدر جدا، وباحث ماهر باللغة السريانية. وقد كتب أبحاثاً ضد أتباع مركيون، وغيره ممن ابتدعوا آراء مختلفة. كتبها بلغته مع مؤلفات أخرى كثيرة.. ومن بينها بحث قوي عن القضاء والقدر:
ومؤلفات أخرى يقال إنه كتبها بمناسبة الإضطهاد الذي حدث وقتئذٍ )) .
لاهوته :
كان برديصان فيلسوفاً ومنجماً أكثر منه لاهوتياً محترفاً، حاول التوفيق بين المسيحية والأفكار الفلسفية السائدة آنئذ، مثله مثل معاصريه: يوستينس وططيانس واقليمس الاسكندري. صحيح إن مار أفرام الذي جاء بعده بقرن، رفض آراءه ووصفها بأبشع العبارات وعدّها هرطقة ((البرديصانية)).
لزم مقاومتها: ((من الذي سمّى برديصان باسم ديصان (النهر)، وخنق فيه برديصان أكثر من ديصان)). إلا أن الرجل لا يستحق كل هذه القسوة، يجب فهمه بحسب زمانه والإطار الذي فيه وردت آراءه، فاللاهوت كان لا يزال في بداياته.
1-الإيمان بالله
الإيمان بالله، هو في غاية الأهمية، بالنسبة إلى برديصان الذي يرسم صورة قاتمة لمن لا إيمان لهم:
((كثيرون هم الذين لا إيمان لهم، ولم يتلقوا المعرفة من الحكمة الحقة، لذا لا يسعهم أن يتكلموا ويستنتجوا، وليس لهم أن يشتاقوا بسهولة إلى الإصغاء. فليس لديهم أساس الايمان ليبنوا عليه، ولا ثقة تدعم رجاءهم، فإنهم يشكون في الله، وليس فيهم مخافته لكي تنجيهم من جميع الخرافات، فالذين ليس لهم مخافة الله، يتعرضون لجميع الخرافات … إنهم يتيهون في أفكارهم ولا يستطيعون الاستقرار، ومذاق أفكارهم تافه في فمهم، وهم في كل حين خائفون، فزعون وثائرون)).
أحدية الله ثابتة في نظر برديصان، لربما ضد أفكار مرقيون الذي يسميه ابن البحر والغنوصيين ، ولا نجد أي تلميحات إلى الثالوث المسيحي، وبخصوص المسيح والمسيحيين يقول: ((ماذا نقول عن ملتنا الجديدة نحن المسيحيين، وقد أقامها المسيح بمجيئه في كل بلد وكل الجهات. فنحن جميعا، حيثما كنا، ندعى مسيحيين باسم المسيح الواحد، ونجتمع في يوم واحد هو الأحد، ونمتنع عن الطعام في أيام معلومة)).
2-مفهومه للإنسان
أنتروبولوجيا برديصان متأثرة بالكتاب المقدس. فالله هو الذي خلق الإنسان، وخلقه عاقلا وحرا وسيد المخلوقات، وساواه بالملائكة. وثلاثيته مقتبسة من الفلاسفة اليونان وبخاصة أفلاطون فالإنسان مركّب من جسد ونفس وعقل، ومركز حريته هو في عقله وليس في قوة بدنه، وهذا ما يميزه عن الحيوان. واهتم برديصان بموضوع الخير والشر والإرادة الحرة والقدر، ويؤكد أن طبيعة الإنسان أساسا صالحة، غير إن الظروف الخارجية، التي ليست بيده، تؤثر فيه، ومع هذا يبقى تصميمه الأخلاقي حرا: ((ولكونه ـ الإنسان ـ مخلوقا على صورة الله، فقد أُعطيت له هذه الأمور لخدمته في الحياة الزمنية، وأُعطي له أن يتصرف حسب إرادته الشخصية، وأن يعمل كل ما يستطيع عمله إن شاء وألا يعمله إن لم يشأ… من ثمة يظهر له أن جودة الله عظمت تجاه الإنسان، وأعطي حرية أكثر من جميع العناصر التي ذكرناها، لكي يتبرر بهذه الحرية، ويتصرف بنوع إلهي، ويمتزج بالملائكة الذين يحظون هم أيضا بحريتهم الشخصية)). وأمام اعتراض عويذا على ثقل الوصايا على طبيعة الإنسان. يجيب برديصان إن الخير هو من جوهر الطبيعة البشرية وإن عاش الإنسان بموجبه حصل على التناغم :((إن الخير يعود إلى الإنسان، لذا فهو يفرح إذ يعمل الصلاح أما الشر، فهو بتأثير من الشرير، لذا فإن الإنسان يفعل الشرور حينما يكون مضطربا وغير سليم في طبيعته)).
برديصان من جانب آخر ثنائي النهج والفكر، فينسب الشر إلى العدو ـ ضد الخير، كما أن الظلام هو ضد النور. مع هذا لا ينسب أصل الشر إلى الله، أو يجعله قوة إلهية، كما لا ينسبه إلى جوهر الطبيعة البشرية. ينكر برديصان قيامة الجسد، لربما لأنه مثل الفلاسفة اليونانيين الذين يرون في الجسد مزيجاً من النجاسة، قد يكون بسبب ما يحمله الجسد من السوائل، لكنه يؤمن بقيامة الروح بحسب النظرة الثنائية التي تقول إن المادة فاسدة والروح طاهرة، المادة زائلة والروح خالدة، لذا يقتضي تحييد الجسد وتشفيفه لتتحرر الروح وتعود إلى سابق وجودها. إنه يؤمن بوجود سابق للنفس البشرية (قارن بعالم المثل لأفلاطون). إن نظرية المعرفة عنده تدخل في الخط الرواقي بحسب زمانه.
3-القضاء والقدر:
يرى برديصان ثلاثة أسباب في أصل ما يحصل للإنسان من فقر وثروة وصحة ومرض، وهي خارج إرادته: أما بفعل القدر المتجسد في الأبراج السبعة، أو بسبب الطالع أو عقاباً من الله.
خاصة لما يتصور وجود قدرته وحكمته بنسب غير محدودة في الكون. إن مفهوم برديصان للقدر يختلف تماما عن المفهوم الديني الذي يؤمن به البعض، والمتعلق بالله مسير كل شيء.
يرى برديصان، كأهل زمانه، إن للأجرام السماوية تأثيرات على طبيعة الأرض والإنسان، فللمواسم نفوذ كبير على الغلات ـ الإقتصاد، وبالتالي على حياة الأنسان الجسدية والإجتماعية والروحية، فالحر والبرد وجودة الغلات ورداءتها كلها تطبع حياة الإنسان، تعرقلها أو تدفعها إلى الأمام، وفي ما عدا ذلك يؤكد برديصان أن الإنسان حر. وهذه النظرة تتماشى مع التعريف الذي يعطيه للقدر: ((لنتكلم الآن عن القدر ونبين إنه ليس مسلطاً على كل شيء، لأن ما يسمى بالقدر هو نفسه، نظام سير الأجرام السماوية والعناصر الممنوح لها من قبل الله. وحسب هذه السيرة وهذا انظام تتبدل العقول عندما تنحدر في النفس، وتتبدل الأنفس عندما تنزل في الجسد. وهذا التغيير نسميه قدرا وطالعا، وبميلاد هذا الخليط المركب، والذي يتنقى لاستعمال ما ينفع ويحصل بحنان الله ونعمته إلى نهاية العالم )). يستعمل برديصان لفظتين تقنيتين هما القضاء سرياني والقدر ـ أو الحظ سرياني وكثيرا ما يستعملهما كمرادفين لنفس المعنى. يقول برديصان ((يستطيع القدر كما رأينا. أن يخل بنظام الطبيعة، مثلما يستطيع الإنسان بحريته أن يربك نظام القدر، وأن يعيده إلى الوراء. طبعا ليس في كل شيء. كذلك لا يبلبل القدر الطبيعة في كل شيء.
إن هذه العناصر الثلاثة: الطبيعة والقدر والحرية، كل واحد منها يحافظ على شكل وجوده إلى أن تكتمل الدائرة والمقياس والعدد كما قد جعلها ذاك الذي ـ الله ـ حدد وجود وكمال وجوهر ومقياس العناصر والطبائع.
نصوص مختارة :
قبل أيام، ذهبنا إلى زيارة أخينا ((شمشكرام)). وجاء برديصان والتقانا هناك. وحينما جسه ورأى بانه بحال حسنة، سألنا عما كنا نتحدث به قائلاً: ((إني سمعت صوتكم من الخارج لدى دخولي)) فإنه كان معتادا، حينما يسمعنا نتكلم عن شيء أمامه، أن يسألنا عن موضوع حديثنا، لكي يكلمنا عنه. فقلنا له : ((كان عويذا هذا يقول لنا :إن كان الله واحدا، كما تقولون، وهو الذي خلق البشر، ويرضى بما تؤمرون بالقيام به، فلماذا لم يخلق البشر بحيث لا يستطيعون أن يخطئوا، بل أن يفعلوا الخير كل حين، وبهذا كانت إرادته تكمل؟ قال له برديصان: ((قل لي ما هو قصدك، يا ابني عويذا: فاما إن الله ليس واحدا، وأما إنه واحد ولا يشاء أن يتصرف البشر بعدالة واستقامة؟)).
قال عويذا: ((يا سيدي، إنما أنا سألت زملائي هؤلاء ليعطوني الجواب)).
قال له برديصان: ((إن أردت التعلم، فخير لك أن تتعلم ممن هو أكبر منهم. وإن أردت أن تعلم، فلا داعي إلى طرح السؤال عليهم، بل أن تسمح لهم بأن يسألوك ما شاؤوا. فالمعلمون يسألون ولا يُسألون، وحينما يسألون، فإنما ذلك ليصلحوا رأي السائل، لكي يتسنى له أن يحسن طرح السؤال، فيعرف الآخرون ما هو رأيه. فإنه لأمر حسن أن يعرف المرء كيف يسأل)).
قال عويذا: ((إنما أريد أن أتعلم. وإذا سألت أولا أخوتي هؤلاء، ذلك لأني أخجل منك)).
قال برديصان: ((إنك تتكلم برياء. لكن أعلم أن من يسأل حسناً وهو يريد أن يعرف ويدنو من طريق الحق دون مواربة، لا يخزى ولا يخجل، لأنه بذلك يسبب فرحا لذاك الذي يسأل. فإذا كان لك شيء في فكرك عما سألت، فأفصح عنه لجميعنا، يا بني. وإذا نال استحساننا، فإننا سنشترك معك، وإلا فإن الضرورة تدفعنا إلى أن نصرّح لك لماذا لا يطيب لنا. فإذا أردت أن تسمع هذه الكلمة فقط، دون أن تقصد شيئا من ورائها، مثل إنسان دنا حديثا من التلاميذ وهو يسألهم عن أمور جديدة، فإني ساجيبك، لئلا تغادرنا دون فائدة. وإذا طاب لك كلامي في هذا الشأن، فلك عندنا أمور أخرى. وإن لم يطب لك، فإننا نقول ما لدينا دون تحفظ)).
قال عويذا : ((أنا أيضا اشتاق جدا إلى الإصغاء والاقتناع، إذ لم أسمع هذا الكلام من إنسان آخر، بل قلته من ذاتي لأخوتي هؤلاء، ولم يريدوا أن يقنعوني، بل قالوا: ((آمن إيمانا، فيتسنى لك أن تعلم كل شيء. ((لكني لا يسعني أن أومن ما لم أقتنع )).
قال برديصان: ((ليس عويذا وحده لا يريد أن يؤمن، بل كثيرون آخرون مثله. وإذ لا إيمان فيهم، فلا يستطيعون الاقتناع أيضا، بل يهدمون ويبنون دوما، ويوجدون خالين من معرفة الحقيقة كلها.
ولأن عويذا لا يريد أن يؤمن، فإني أحدثكم أنتم الذين تؤمنون عما سأله، وسيتسنى له أن يسمع المزيد)).
وشرع يقول لنا :
كثيرون هم الذين لا إيمان لهم، ولم يتلقوا المعرفة من الحكمة الحقة. لذا لا يسعهم أن يقولوا ويستنتجوا، ولا هم يشتاقون بسهولة إلى الإصغاء. فليس لديهم أساس الإيمان ليبنوا عليه، ولا ثقة تدعم رجاءهم. فإنهم يشكون في الله، وليس فيهم مخافته لكي تُنجيهم من جميع الخرافات. فالذين لا مخافة الله فيهم، يتعرضون لجميع الخرافات. وليسوا متأكدين حتى من كونهم لا يؤمنون حسنا بالأمور المختلفة التي لا يؤمنون بها. إنما يتيهون في أفكارهم ولا يستطيعون الاستقرار، ومذاق أفكارهم تافه في فمهم، وهم في كل حين خائفون فزعون وثائرون.
أما قول عويذا: لماذا لم يجعلنا الله لا نخطىء ونذنب، فلو كان الإنسان مصنوعا هكذا، لما كان سيد نفسه، بل لكان أداة بيد من يحركه. ومن المعلوم أن المحرك يحركه كما يشاء، للخير أو للشر. فماذا كان يميز الإنسان عن الكنارة التي يعزف بها آخر، أو عن العجلة التي يقودها آخر ؟ لأن الفخر والمذمة يعودان إلى الفاعل. إنما هي آلات موضوعة لاستعمال من له المعرفة. أما الله بجودته فلم يشأ أن يصنع الإنسان هكذا، بل سما به بالحرية فوق أمور عديدة، وساواه مع الملائكة. انظروا إلى الشمس والقمر والفلك وإلى سائر الأمور التي تفوقنا عظمة : فلم تمنح لها حرية ذاتية، بل كلها مثبتة بأمر بحيث تفعل حسبما أمرت به، دون شيء آخر . فلا تقول الشمس قط إني لا ارتفع في أواني، ولا القمر إني لا أتغير ولا انقص ولا أزيد، ولا أحد من الكواكب إني لا أشرق ولا أغرب، ولا البحر إني لا أحمل السفن ولا أقف عند حدودي، ولا الجبال إننا لا نقف في البلدان التي وضعنا فيها. ولا تقول الرياح إننا لا نهب. ولا الأرض إني لا احتوي واحتمل كل ما يوجد فوق سطحي. بل جميع هذه الأمور تعمل وتطيع أمرا واحدا. إنها آلات حكمة الله التي لا تخطأ. فلو كان كل شيء يخدم خدمة، فمن كان الذي يستخدمه ؟ ولو كان كل شيء يستخدم استخداماً. فمن كان الذي يستخدمه ؟ إذن لما كان شيء يتميز عن آخر. لأن ما هو واحد ولا تمييز فيه، فهو كائن لم يخلق بعد. لكن الأمور الضرورية للاستعمال وضعت تحت سلطة الإنسان. ولكونه مخلوقا على صورة الله. فقد أُعطيت له هذه الأمور لخدمته في الحياة الزمنية، وأُعطي له أن يتصرف حسب إرادته الشخصية، وأن يعمل كل ما يستطيع عمله إن شاء وألا يعمله إن لم يشأ، وهو يبرر ذاته أو يشجبها. فلو خلق بحيث لا يستطيع اقتراف الشر لئلا يكون مذنبا به، لكان الخير الذي يفعله أيضا ليس له ولا يتسنى له أن يتبرر به. فمن لا يفعل الخير أو الشر بإرادته، يعود تبريره وشجبه إلى ذاك الذي يؤثر فيه.
من ثمة يظهر له أن جودة الله عظمت تجاه الإنسان، وأُعطي حرية أكثر من جميع هذه العناصر التي ذكرناها، لكي يتبرر بهذه الحرية ويتصرف بنوع إلهي.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت
مصدر آخر
ولد برديصان بالرها وثنياً في 1 تموز سنة 154 م ونشأ في قصر ملكها معنو الثامن، ونال مع ابنه أبجر القسط الأوفى من العلم والأدب. وتنصّر وسُيّم شماساً وقيل قساً، لكنه تورّط في معتقدات فاسدة، ذلك أنه لم يكن قد انتهى من خبائث وثنيته القديمة فنبذته الكنيسة ومات سنة 222 + وكان من صدور الكتّاب البلغاء عبقرياً وفيلسوفاً جليلاً، وصنّف بالسريانية كتباً شتى لم يبق منها غير كتيب موسوم بشرائع البلدان، أملاه على تلميذه فيلبس، وناقش فيه قضية القضاء والقدر. ومن تصانيفه الضائعة كتاب في الفلك ذكره جرجس أسقف العرب، ومئة وخمسون نشيداً على طريقة مزامير داود. قال مار أفرام الذي ذكرها، انه ضمنها مذهبه الذي خرج به على الأرثوذكسية ولقنها الشبيبة الرهاوية بعد أن وقّعها على لحون شتى مطربة تخلب القلوب. فأنشأ شيعة عُرفت “بالديصانية” وضمت طبقة من أصحاب الثقافة والثراء. وحينما حلّ القديس أفرام بالرها 363 صرف همّه إلى معارضتها وقهرها بأناشيد على أوزانها وألحانها. كما هدى مار رابولا مطران الرها 435 + أكثر أشياعه إلى محجة الأرثوذكسية، فبقي منهم بقية انتثرت في بعض البلاد خصوصاً بلاد الفرس، وظل أعقابها حتى القرن العاشر.
ولم يكن برديصان أبا الشعر السرياني وصانع أوزانه كما ارتأى المعاصرون لنا، فإن السريان قرضوا الشعر قبل زمانه بعهد بعيد غير أنه توسع في أوزانه وتفنن فيها. وقيل أنه نشأ له ابن اسمه هرمونيوس جوّد النظم وشاء أباه، وعلى هذه الرواية أجمع مؤرخو العصور القديمة والوسطى، بل أن سوزمين وثاودريط ذهبا أن الذي نظم النشائد ولقنها فتية الرها فطربت لها، إنما هو هرمونيوس وإياه ناهض امر أفرام، على أن ما وصل إلينا من أناشيد هذا الملفان، يفصح باسم برديصان لا باسم ابنه، ولم يبق من نشائد المبتدع سوى خمسة أبيات في كتاب لثاودورس ابن كوني من كتبة القرن السابع. وكان لبرديصان عدة أصحاب وتلاميذ نقلوا مصنّفاته إلى اليونانية. فوقعت كلها أو بعضها إلى أوسابيوس القيسراني الذي أثنى عليه في تاريخه الكنسي لاجتهاده في بادئة أمره بالوعظ، وذكر له محاورة ناهض بها مرقيون المبتدع. وكتاباً في الحظّ ذكره أيضاً ابيفانيوس وهيرونيمس ولم تتفق كلمة مؤرخي الأدب المعاصرين إذا كان هو غير كتيب “شرائع البلدان”.
مزامير سليمان وتسابيحه
المزامير والتسابيح الواحد والستون التي نُحلت سليمان الحكيم، وهي على وتر مزامير داود، عالية الإنشاء شائقة الأسلوب جميلة المعاني تحيطها النفحة الشعرية من سائر نواحيها، يشتمل أكثرها على مناجاة عذبة وتسابيح الله سبحانه والاعتصام بحبله وتعليق الرجاء الوطيد به والإجهار بقدرته وإرادته التي لا تردّ في تسيير الكائنات قاطبةً، وتفصح بالثالوث الأقدس وتجسد كلمة الله المسيح ومولده من العذراء وسلطانه وملكه.
كشفت من زمن يسير عام 1909 إذ وقع المستشرق رندل هاريس الإنكليزي في بعض البلاد الواقعة على ضفاف دجلة، على كتاب سرياني صغير الحجم مخروم قليلاً من أوله وأخره مكتوب في أوائل القرن الخامس عشر بخط جلي حسن، يتضمن 42 ترتيلاً أومزموراً يغلب عليها الإختصار في 112 صفحة. ولدن معارضتها بنسخة قديمة في المتحف البريطاني رقم 14538 مخطوطة بقلم اسطرنجيلي يخالطه طرف من القلم الغربي، حوالي القرن العاشر أو الحادي عشر، وأصلها من خزانة دير السريان، وجد فيها زهاء تسعة عشر من التسابيح نُحلت سليمان وهي مطولة وينطوي أحدها على 52 آية. ورجع إلى مجموعة مستغربة يُقال لها (بيستيس سوفيا Pistis Sophia). تحتوي على بعض مزامير لسليمان باللغة القبطية الطيبية منقولاً إلى اللاتينية، نسخ منها ما خلت منه النسخة السريانية، ونشر هو والفُنس مِنغانَه المجموع كله بنصّه وفصّه ونقلاه إلى الإنكليزية عام 1916 معتمدين على النسخة المذكورة، ويريان أنه لا يعوزها سوى ست صفحات من الأول والأخر.
وعمد العلماء إلى دراستها فرأى الرأي الغالب فيهم، اما أنها تأليف برديصان أو أحد أتباعه وأشياعه وجعلوا زمان وضعها أواخر المئة الثانية أو صدر المئة الثالثة، أو إنها من نسج بعض اللاادريين قبل عهد برديصان الذي طالعها، بل أن شابو يحسبها موضوعة أواخر القرن الأول أو صدر الثاني.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت
نقلاً عن كتاب اللؤلؤ المنثور.