الولادة: 185
الوفاة: 254
🕊 أوريجانوس (أوريجانس) (Ὠριγένης Ōrigénēs,)
كان من أبرز أوائل آباء الكنيسة المسيحية. توفي في كايساريا عام 254. كتاباته هامة بوصفها واحدة من أولى المحاولات الفكرية لوصف المسيحية.
🌱 أوائل حياته
كان أبواه مسيحيين متدينين، وكان ذو عقلية فَذّة وصار نابغة في العلم رغم حداثة سنّه. وأشتهر أيضًا بمساندته وتشجيعه للمؤمنين الذين يتعرضون للاضطهاد، وكان يقويهم في الإيمان حتى يستشهدوا.
ووصل إلى أن يكون مديرًا لمدرسة الإسكندرية المسيحية وهو في سن الثامنة عشرة، بعد أن عينه البابا ديميتريوس الأول، البطريرك الـ 12، رئيسًا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية خلفًا لأكليمنضس الأسكندري.
كان نَشِطًا في تفسير الكتاب المقدس والدراسات الإنجيلية المُقارنة. وقد كتب أكثر من 6000 تفسير للكتاب المقدس، بالإضافة إلى كتاب «هيكسابلا» الشهير.
⚖️ أوريجانوس والبابا ديمتريوس
في سنة 228م، أرسله البابا ديميتريوس إلى إخائية ببلاد اليونان ليقاوم الهراطقة الذين أقلقوا راحة الكنيسة هناك. فزار في طريقه فلسطين، وكان في كل مدينة أو قرية ينزلها يدعى إلى الوعظ في الكنائس. ولما مر بفلسطين عند رجوعه خاطبه أسقفها «ثوسيستوس» بالاشتراك مع أسكندر، أسقف أورشليم، بأنه لا يجوز بأستاذ الكهنة والأساقفة أن يكون مجردًا من كل الكهنوت. وارتضى بعد إقناع شديد، حيث إنه خصى نفسه قبلاً في مصر حتى لا يرسمه البابا ديميتريوس كاهنًا، إذ لابد أن يكون الكاهن كاملاً، وقبل من أساقفة فلسطين درجة القسوسية وهو في السنة الثالثة والأربعين من العمر.
غير أن ديميتريوس اعتبر هذه السيامة تعدّيًا على حقوقه. ومن ذلك الحين بدأ سوء التفاهم يجد مكانًا بين أوريجانوس والبطريرك، الذي قام بالحجة على ذينك الأسقفين لرسامتهما شخصًا خاضعًا له. فجاوباه بأن احترامهما لمركزه عظيم. قال أوريجانوس: «إن الحسد هو الذي حمل ديميتريوس على هذا كله»، غير أنه لم يأتِ ببرهان على صحة ذلك. والحقيقة كما يرويها المدققون أن البطريرك الإسكندري امتنع عن ترقية أوريجانوس لدرجة كهنوتية لسببين:
- السبب الأول: إنه خصى نفسه، الأمر الذي أخفاه أوريجانوس عن أسقفي فلسطين وأورشليم.
- السبب الثاني: نحول جسمه وضعفه.
وقد قلنا إن أوريجانوس كان يسعى وراء انحطاط القوى ليكون حاجزًا بينه وبين الرتب الكهنوتية التي كان راغبًا عنها، كأغلب أتقياء العصور الأولى.
ولما رجع أوريجانوس بعد رسامته، رأى البطريرك حاقدًا عليه ووجد مركزه قد سقط، فحصل بينه وبين البطريرك نزاع، عقد بسببه مجمعًا بالإسكندرية سنة 231م، حكم فيه بنفي أوريجانوس وبحرمه، لأنه رسم من أسقفين غير تابعين للكرازة المرقسية، ولأنه خصى نفسه، الأمر الذي بالغ أوريجانوس في كتمانه وساعده البطريرك على ذلك، ولكنه اضطر إلى إشهاره رغماً عنه، ثم أرسل خطابات إلى جميع الكنائس يعلمها بحكمه على أوريجانوس.
أما أوريجانوس، فمع كونه عرف أن هذا الحكم في غاية القساوة، إلا أنه تدارك الأمر بحكمته، ولم يشأ أن يمكث في الإسكندرية ليوسع هذا الخلاف، بل تركها لا رجوع بعده. وكان قد أكمل القسم الخامس من كتابه في إنجيل القديس يوحنا، ففزع إلى قيصرية. وفي تلك الأثناء عقد مجمع آخر وفحص كتاب «المبادئ» وحكم بأنه هرطوقي وحرم مؤلفه.
ولما وصل أوريجانوس إلى فلسطين استُقبل فيها استقبال القائد المنتصر، فأستاء البابا ديميتريوس من كثرة تعدي أساقفة تلك الجهة على حقوقه. ولحق بأوريجانوس إمبروسيوس وعائلته، وتبعه كثيرون من طلاب العلم. ولهذا عزم على فتح مدرسة في قيصرية فلسطين يعلم فيها تفسير الكتاب المقدس، وكمل في تلك المدينة تفسيره لإنجيل يوحنا.
🕯 وفاته
فيما بين 249م – 251م، أثار الإمبراطور دقيوس الاضطهاد ضد المسيحيين، فألقوا القبض على أوريجانوس وعذبوه تعذيبًا شديدًا، فوضعوا طوقًا حديديًا في يده وربطت قدماه في المقطرة، وضربوه، واحتمل الآلام في شجاعة منقطعة النظير، ثم أطلق سراحه بعد ذلك.
وفي عام 254م، مات بعد فترة قصيرة متأثرًا بآلامه وجراحاته، وكان قد بلغ من العمر 69 عامًا. وقد أرسل له البابا ديونسيوس، البطريرك الـ 14، رسالة عن الاستشهاد يشجعه فيها على احتمال المشقات وأظهر تعاطفه معه.
⚖️ حرمان أوريجانوس
تم حرمان أوريجانوس بواسطة البابا ديمتريوس الكرام، البطريرك الثاني عشر، في أوائل القرن الثالث، وتأكد حرمانه أيضًا في عهد البابا ثاؤفيلس، البابا الثالث والعشرين، في أواخر القرن الرابع، وتحمس لذلك قديسون كثيرون في القرنين الرابع والخامس، منهم القديس إبيفانيوس، أسقف قبرص، ثم القديس جيروم الذي كان من محبيه في البدء.
كانت هناك أعمال لجيروم، منها قاموس الأسماء الكتابية والأصول اللغوية، وتفسيرات كتابية اعتمد فيها بشكل كبير على أوريجانوس، رغم أنه وقف ضده في الأمور العقائدية.
لم ترفع الحرومات عن أوريجانوس، والكنائس الأرثوذكسية البيزنطية تحرم كل تعاليمه في مجمعيها الخامس والسادس.
في 2007، تطرق البابا بندكتوس الـ16 في تعليمه الأسبوعي، في مقابلة الأربعاء العامة، إلى شرح أوريجانوس عن الصلاة والكنيسة، وذلك أثناء مقابلته العامة المعتادة مع المؤمنين والحجاج في قاعة بولس السادس بالفاتيكان. وكان الأب الأقدس قد تحدث الأربعاء الماضي عن الشخصية الفَذّة لهذا المفكر اللاهوتي المسيحي في الإسكندرية من القرن الثالث الميلادي.
📚 أوريجانوس العلامة
تبقى شخصيته محيّرة، فإن كان بعض الدارسين مثل كواستين وغيره يشهدون لدوره الفعّال في الاهتمام بالكتاب المقدس، وقد تأثر به حتى مقاوموه، لكن الكنيسة القبطية، وقد شعرت بخطورة تعاليمه، حرمته في حياته، بينما الكنائس الخلقيدونية حرمته في أشخاص تابعيه سنة 553م، وذلك لما وجد في كتاباتهم عن وجود النفس السابق للجسد، وأن جميع الخليقة العاقلة، حتى الشياطين، ستخلص الخ…
لقب العلامة أوريجانوس بـ «أدمانتيوس»، أي «الرجل الفولاذي»، إشارة إلى قوة حجته التي لا تُقاوم، وإلى مثابرته.
👶 طفولته وبداياته
يعتبر الكثيرون أوريجينوس ابن مصر الأصيل، رغم أن اسمه يوناني وليس قبطيًا، ويبدو أنه وُلِد في الإسكندرية حوالي عام 185م. اهتم به والده ليونيدس (Leonides) فهذّبه بمعرفة الكتاب المقدس، وقد أظهر الابن شغفًا عجيبًا في هذا الأمر. يُقال إن والده كثيرًا ما كان يَقِف بجوار الصبي وهو نائم، ويكشف صدره كأن روح الله قد استقر في داخله، ويقبّله بوقار معتبرًا نفسه أنه قد تبارك بذريته الصالحة.
استشهاد ليونيدس عاصر الاضطهاد الذي أثاره سبتيموس ساويرس عام 202م، والذي كان أكثر عنفًا على الكنيسة المصرية، حتى ظنّ كثيرون أن هذا الاضطهاد هو علامة على مجيء «المسيح الدجال». أُلقيّ القبض على ليونيدس ووُضِع في السجن، أما أوريجينوس الذي لم يكن بعد قد بلغ السابعة عشرة من عمره فكان يتوق بشغف إلى إكليل الاستشهاد مع والده. وفي اللحظة الحاسمة، مَنَعته أمه من تحقيق رغبته بإخفاء كل ملابسه حتى يلتزم البقاء في المنزل ليرعى شؤون أخوته الستة. فأرسل إلى أبيه يحثّه على الاستشهاد، قائلًا له: «أحذر أن تغيّر قلبك بسببنا».
🏠 نشاطه التعليمي المبكر
معلم الأدب إذ صودرت ممتلكات ليونيدس بعد استشهاده، صار أوريجينوس وعائلته في عوز، لهذا التجأ إلى سيدة غنية رحّبت به، لكنه لم يحتمل البقاء كثيرًا، لأن معلّمًا هرطوقيًا يدعى بولس الإنطاكي استطاع أن يؤثر عليها ببلاغته فضمّه إلى بيتها، وتبنّته، وأقامه فيلسوفًا خاصًا بها، وسمحت له أن ينشر هرطقته بإلقاء محاضرات في بيتها.
لم يستطع أوريجينوس ـ وهو بعد صغير السن ـ أن يشترك في الصلاة مع هذا الهرطوقي متمسكًا بقوانين الكنيسة، فترك البيت وعكف على تدريس الأدب الدنيوي والنحو لينفق على نفسه وعلى عائلته. وجد أوريجينوس في تدريسه للوثنيين الأدب والنحو فرصته للشهادة للإيمان المسيحي قدر ما تسمح الظروف، فكان يعلن عن مركز اللاهوتيات بين الكتابات اليونانية، وبهذا اجتذب بعض الوثنيين الذين جاءوا يطلبون أن يسمعوا منه عن التعاليم المسيحية، من بينهم بلوتارخس الذي نال إكليل الاستشهاد وأخوه هيراقليس (ياروكلاس) الذي صار بطريركًا على الإسكندرية.
🏫 أوريجينوس ومدرسة الإسكندرية
إذ تُركت مدرسة الإسكندرية بلا معلم بسبب الاضطهاد ورحيل القديس أكليمنضس، عَيَّن البابا ديمتريوس أوريجينوس رئيسًا للمدرسة وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره. أوقف أوريجينوس كل نشاط له وباع كل كتبه الثمينة المحبوبة لديه، ليكرّس حياته بالكامل للعمل الجديد الذي أوكل إليه كمعلم للموعوظين.
تتلمذ على يديه كثيرون، نذكر على سبيل المثال القديس الكسندروس أسقف أورشليم الذي كان يتطلّع إلى أوريجينوس كمعلمه وصديقه.
📖 دوره في تطور المدرسة وتعليم اللاهوت
ألقى العلامة أوريجينوس بنفسه بكل طاقاته، لا لدراسة الكتاب المقدس والتعليم به فحسب، بل وفي تقديم حياته مثلاً للحياة الإنجيلية. في هذا يقول القديس غريغوريوس العجائبي: «لقد جذبنا بأعماله التي فعلها أكثر من تعاليمه التي علمنا إياها».
اتّسم أيضًا بالحياة النسكية مع ممارسة الصلاة، بكونها جزءًا لا يتجزأ من الحياة النسكية، تسندُه في تحرير النفس ودخوله إلى الاتحاد مع الله بطريقة أعمق. يرى في الصلوات أمرًا ضروريًا لنوال نعمة خاصة من قبل الله لفهم كلمة الله. رأى أن الإنسان يطلب الاتحاد مع الله خلال حفظ البتولية، فينسحب عن العالم وهو بعد يعيش فيه، مقدّمًا تضحية في أمور الترف قدر ما يستطيع، محتقرًا المجد البشري. وبسبب حضور النسوة يستمعن محاضراته، ولكي لا تحدث عثرة رأى أن ينفذ حرفيًا ما ورد في الإنجيل: أن أناسًا خصّوا أنفسهم من أجل ملكوت الله (مت12:19)، لكنه يبدو أنه قد قدّم توبة على هذا الفعل. وقد استخدمها البابا ديمتريوس ضده.
ركّز أوريجينوس على إعداد الموعوظين وتهيئتهم للعماد، لا بتعليمهم الإيمان المسيحي فحسب، وإنما بتقديم التعاليم الخاصة بالحياة المسيحية العملية أيضًا.
لم يقف عمل أوريجينوس عند تهيئة الأعداد الضخمة المتزايدة لنوال سر العماد، وإنما كان عليه بالحري أن يهيئهم لقبول إكليل الاستشهاد. فكل من يقترب إليه إنما بالحري يجري نحو خطر الاستشهاد.
اهتم بتعميق الفكر الدراسي؛ إذ كان جمهور تلاميذه يلتفون حوله من الصباح حتى المساء، رأى أن يقسمهم إلى فصلين، واختار تلميذه هيراقليس ـ المتحدث اللبق ـ ليدرس المبتدئين المبادئ الأولى للتعاليم المسيحية، أما هو فكَّرس وقته في تعليم المتقدمين اللاهوت والفلسفة، معطياً اهتمامًا خاصًا بالكتاب المقدس.
لعل أعظم أثر لأوريجينوس على مدرسة الإسكندرية هو إبرازه التفسير الرمزي (المجازي) للكتاب المقدس، فقد كرّس حياته كلها لهذا العمل، حتى نُسِب هذا المنهج التفسيري لمدرسة الإسكندرية ولأوريجينوس.
🌍 رحلات أوريجينوس ومناقشاته اللاهوتية
حوالي عام 212م، زار أوريجينوس روما في أثناء أسقفية زفيرينوس (Zephyrinus)، وفي حضرته ألقى القديس هيبوليتس مقالًا عن كرامة المخلص، وبعد إقامة قصيرة هناك عاد إلى الإسكندرية.
قام بعدة رحلات إلى بلاد العرب، أولها حوالي عام 214م، حيث ذهب إليها بناءً على دعوة من حاكم تلك البلاد الذي كان يرغب في التعرف على تعاليمه، كما دُعِيّ إلى العربية عدة مرات ليتناقش مع الأساقفة. أشار المؤرخ يوسابيوس إلى اثنتين من هذه المناقشات، نذكر منهما أنه في عام 244م انعقد مجمع عربي لمناقشة وجهة نظر الأسقف بريلوس في شخص السيد المسيح. انعقد هذا المجمع على مستوى واسع، وأدان الأسقف بسبب قوله إن الله أقنوم واحد، وقد حاولوا باطلًا إقناعه أن يعود إلى الإيمان المستقيم. أسرع أوريجينوس إلى العربية ونجح في إقناع الأسقف الذي يبدو أنه بعث إليه برسالة شكر، وصار من أكبر المدافعين عنه.
حوالي عام 216م، إذ نهب الإمبراطور كاركلا (Caracalla) مدينة الإسكندرية وأغلق مدارسها واضطهد معلميها وذبحهم، قرر أوريجينوس أن يذهب إلى فلسطين. هناك رحّب به صديقه القديم الكسندر أسقف أورشليم، كما رحّب به ثيوكتستوس (Theoctistus) أسقف فلسطين، اللذان دعواه ليشرح الكتاب المقدس للشعب في حضرتهما. غضب البابا ديمتريوس الإسكندري جدًا، لأنه حسب عادة الكنيسة المصرية لا يستطيع غير الكاهن أن يعظ في حضرة الأسقف، فأمره بالعودة إلى الإسكندرية سريعًا، فأطاع وعاد، وبدت الأمور تسير كما كانت عليه قبلاً.
مع بداية حكم إسكندر ساويرس (222-225م)، أرسلت مامسيا (Mammaca) والدة الإمبراطور حامية حربية تستدعي أوريجينوس إلى إنطاكيا ليشرح لها بعض الأسئلة، وقد استجاب للدعوة ثم عاد إلى مدرسته.
أرسل أوريجينوس إلى اليونان لضرورة ملحة تتعلق ببعض الشؤون الكنسية، وبقي غائبًا عن الإسكندرية. ذهب إلى آخائية ليعمل صلحًا، وكان يحمل تفويضًا كتابيًا من بطريركه. وفي طريقه عبر بفلسطين، وفي قيصرية سُمّي قسًّا بواسطة أسقفها. فقد بدا للأساقفة أنه لا يليق بمرشد روحي مثل أوريجينوس بلغ أعلى المستويات الروحية والدراسية، ويبقى غير كاهن. أرادوا أن يتجنبوا المخاطر التي يثيرها البابا ديمتريوس بسماحهم له أن يعظ وهو «علماني» في حضرتهم.
✝️ السيامة والإدانة
اعتُبِر البابا هذه السيامة أكثر خطأ من التصرف السابق، حاسبًا إياها سيامة باطلة لسببين:
- أن أوريجينوس قد قبل السيامة من أسقف آخر غير أسقفه، دون أخذ تصريح من الأسقف التابع له.
- إذ كان أوريجينوس قد خصّى نفسه، فهذا يحرمه من نوال درجة كهنوتية، فإنه حتى اليوم لا يجوز سيامة من يخصّي نفسه.
لم يحتمل البابا ديمتريوس هذا الموقف، فدعا لانعقاد مجمع من الأساقفة والكهنة بالإسكندرية. رفض المجمع القرار السابق مكتفين باستبعاده عن الإسكندرية. لم يرض البابا بهذا القرار فدعا مجمعًا من الأساقفة وحدهم عام 232م، قام بإعلان بطلان كهنوته واعتباره لا يصلح بعد للتعليم، كما أعلن عن وجود بعض أخطاء لاهوتية في كتاباته.
كتب البابا الإسكندري القرار إلى كل الإيبارشيات، فدعا Pontias أسقف روما مجمعًا أيّد القرار، وهكذا فعل كثير من الأساقفة، فيما عدا أساقفة فلسطين والعربية وآخائية وفينيقية وكبدوكيا الذين رفضوا القرار.
اضطر أوريجينوس أن يدافع عن نفسه ضد الاتهامات الخطيرة التي وجهت ضده. فقد أورد روفينوس في كتابه De Adulteratione نبذة طويلة من خطاب كان قد وجّهه أوريجينوس إلى أصدقاء له في الإسكندرية يشكو فيه من الملفقين الذين غيروا بعض فقرات من كتبه وشوهوها، ومن الذين نشروا في العالم المسيحي كتبًا مزورة.
📜 مدرسة جديدة واضطهاد لاحق
حثّه أسقف قيصرية على إنشاء مدرسة للاهوت هناك، رأسها قرابة عشرين عامًا، فيها تتلمذ القديس غريغوريوس العجائبي لمدة خمسة أعوام.
خلال الاضطهاد الذي أثاره مكسيميان، التجأ أوريجينوس إلى كبادوكية قيصرية، وفي هذا الاضطهاد أُلقيّ القبض على صديقيه القديمين: إمبروسيوس وبروتوكتيتوس كاهن قيصرية، ووُضِعا في السجن. كتب أوريجينوس إليهما مقالًا: «الحث على الاستشهاد»، نظر فيه إلى الاستشهاد كأحد البراهين على صحة الحق المسيحي، وكاستمرار لعمل الخلاص. أُطلِق سراح صديقيه وعاد أوريجينوس إلى قيصرية فلسطين.
سافر أوريجينوس إلى أثينا عن طريق بيلينية، حيث قضى عدة أيام في نيقوميديا، وهناك تسلّم رسالة من يوليوس أفريقانيوس، يسأله فيها عن قصة سوسنة إن كانت جزءًا أصيلا من سفر دانيال، وأجابه أوريجينوس برسالة مطوّلة بعثها إليه من نيقوديمية.
🔥 الاضطهاد الأخير واستشهاده
في أيام داكيوس (ديسيوس) (249-251)، ثار الاضطهاد مرة أخرى، أُلقيّ القبض على أوريجينوس. تعذّب جسده، ووُضِع في طوق حديدي ثقيل وأُلقيّ في السجن الداخلي، وربطت قدماه في المقطرة أيامًا كثيرة، وهدد أن يُعَدَّم حرقًا. احتمل أوريجينوس هذه العذابات بشجاعة، وإن كان لم يمت أثناءها، لكنه مات بعد فترة قصيرة، ربما كان متأثرًا بالآلام التي لحقت به.
قبل أن يموت، أرسل إليه البابا الإسكندري ديونسيوس، الذي خلف هيراقليس، رسالة «عن الاستشهاد»، لعله بذلك أراد أن يجدد العلاقة بين العلامة الإسكندري أوريجينوس وكنيسة الإسكندرية.
وفي عام 254م، رقد أوريجينوس في مدينة صور في لبنان، وكان عمره في ذلك الحين 69 عامًا. وقد اهتم مسيحيو صور بجسده اهتمامًا عظيمًا، فدفنوه إزاء المذبح، وغطوا قبره بباب من الرخام نقشوا عليه: «هنا يرقد العظيم أوريجينوس»، تاركًا تراثًا ضخمًا من تفاسير الكتاب المقدس، مقدّمًا منهجه الرمزي في التفسير، وإن كان قد ترك أيضًا بلبلة شديدة في الكنيسة بسببه حتى بين الرهبان، سبّبت انقسامات ومتاعب لا حصر لها.
📚 أوريجينوس الإسكندريّ: الحياة والإنتاج الأدبي
أوريجينوس الإسكندري هو بالفِعل إحدى الشخصيّات المؤثرة في تطوّر الفِكر المسيحي. إذ ورث تعليم كليمنضوس الإسكندري، وأطلقه نحو المستقبل بشكلٍ مُتجدّد لدرجة طبعت فيها تحوّلاً لا رجوع عنه في تطوّر الفكر المسيحي. لقد كان “مُعَلِّمًا” حقيقيًا، وهذه هي الصفة التي يتذكّرها به تلاميذه بِحنين وتأثّر: إنه ليس لاهوتيّا مُتَفَوِّقًا فحسب، بل أيضًا شاهدٌ مثاليّ للعقيدة التي كان ينقلها.
يكتب أوزابيوس القيصريّ، كاتِب سيرة حياته المُتحمّس:
«كان يُعَلِّم أنَّ طريقة التصرّف يجب أن تتطابق فعليًا مع الكلام، وكان هذا بالأخصّ، بمساندة نعمة الله، ما دفعَ الكثيرين للاقتداء به» (تاريخ الكنيسة 6/3/7).
✝️ توقه للشهادة ومعمودية الدم
رافق أوريجينوس كُلَّ حياته توقٌ مُتواصل بالشهادة. كان في السابعة عشرة من عمره، حين اندلعت، في السنة العاشرة من حكم الإمبراطور سيبتيموس ساويروس، اضطهادات في الإسكندريّة ضدّ المسيحيّين. غادر أستاذُه كليمنضوس المدينةَ، بينما أُلقيَ بوالد أوريجينوس، ليونيديس، في السجن.
كان ابنه يرغب الشهادة بتوقّد، لكنه لم يستطع تحقيق هذه الرغبة، لذا كتبَ إلى أبيه يحثّه ألاّ يتراجع عن شهادة الإيمان الأسمى. وعندما قُطِعَ رأس ليونيديس، شعر أوريجينوس الصغير بأنّه يتعيّن عليه قبول مِثال حياته. بعد أربعين سنة، وفيما كان يَعِظ في القيصريّة، اعترف قائلاً:
«لا يُفيدُني بِشيء أن يكون لي أبٌ شهيد، إن لم أُحسن التصرّف ولم أُشَرِّف نُبل سلالتي، أي استشهاد أبي والشهادة التي جعلته مُتألِّقًا في المسيح» (العظة في سفر حزقيال 4/8).
وفي عِظَة لاحقة، عندما بدا أنّ احتمال وقوع شهادته قد تلاشى، يهتف أوريجينوس قائلاً:
«إن سمح لي الله أن أغتسلَ بِدَمي، فأتلقّى هكذا المعموديّة الثانية بِقبولي الموت من أجل المسيح، فإنّي سأبتعد بِثِقة عن هذا العالم… لكنهم طوباويّون أولئك الذين يستحقّون هذه الأشياء» (العظة في سفر يهوذا 7/2).
في عام 250، وخلال اضطهادات الإمبراطور ديقيوس، أُلقي القبض على أوريجينوس وتعرّض لِلتعذيب بِوحشيّة، وأصابه الوهن فَتوفّي بعد بضعة سنوات قبل أن يتجاوز عامه السبعين.
📖 تحوّل أوريجينوس في الفكر اللاهوتي
يكمن «التحوّل الذي لا رجوع عنه» الذي طبع أوريجينوس تاريخ اللاّهوت والفكر المسيحي في تأسيس اللاّهوت على تفسير الكتابات المُقدّسة. كان عمل اللاّهوت بالنسبة إليه في الأساس تفسير الكتابات وفهمها؛ ويُمكننا القول إنّ اللاّهوت عنده هو تعايش كامل بين اللاّهوت نفسه والتفسير الكتابيّ.
العلامة الفارقة للعقيدة الأوريجينيّة كامنة في الدعوة المُتواصلة للانتقال من حرفيّة كلمات الكتابات إلى روحيّتها، لكي نَنمو في معرفة الله. كتب فون بالتازار أنّ هذه «المجازيّة» تتطابق «مع تطوّر العقيدة المسيحيّة الذي قاده تعليم آباء الكنيسة» الذين تقبّلوا درس أوريجينوس.
📝 النتاج الأدبي لِأوريجينوس
النواة المركزيّة لأعمال أوريجينوس الأدبيّة تكمن في «قراءة ثُلاثيّة» للكتاب المُقدّس، وهي الطرق الثلاثة التي كَرّس بها نفسه لدراسة الكتابات المُقدّسة:
القراءة النصّية الدقيقة:
دراسة النصوص كما هي، مع فهم مقصدها الأصلي.
كتب نسخة من الكتاب المقدّس تحتوي على ستّة أعمِدة متقابلة (العنوان «إكسابلا» أي «الأعمدة الست») تشمل النص العبري بالأحرف العبريّة، النص العبري بالأحرف اليونانيّة، وأربع ترجمات يونانيّة للمقارنة.
القراءة التعليقيّة:
قراءة منهجيّة مع التعليقات والشروحات التي قدّمها في المدرسة بالإسكندريّة والقيصريّة.
التفسير آية بعد الأخرى، مع ملاحظات لغويّة وعقديّة دقيقة.
القراءة التفسيرية المسيحيّة:
التبشير بالكتاب المُقدّس متكيّفًا مع متلقّين متنوّعي التركيبة.
تقسيم النص إلى آيات متتالية وشرح أبعاد المعنى:
المعنى الحرفيّ: النص كما هو.
المعنى الأخلاقيّ: كيف نعيش الكلمة في حياتنا اليومية.
المعنى الروحيّ: وحدة الكتابات وتفسيرها في ضوء المسيح.
✝️ القراءة المسيحية للعهد القديم
يَصل أوريجينوس في هذا الطريق إلى ترويج «القراءة المسيحيّة» للعهد القديم، متصدّيًا لتحدّي الهراطقة، خاصّةً الغنوصيّين وأتباع مرقيونس، الذين كانوا يضعون العهدين في تعارض.
في العظة التاسعة في سفر العدد، يؤكّد أوريجينوس:
«هكذا هي الشريعة والأنبياء في مدرسة المسيح؛ مُرّ هو الحرف، الذي يُشبِه القشرة؛ وفي التالي سوف تَصِل إلى المحارة، وهي العقيدة الأخلاقيّة؛ وفي النهاية سوف تجد معنى الأسرار، الذي تتغذّى به نفوس القدّيسين في الحياة الحاضرة والقادمة» (العظة في سِفر العدد 9/7).
كما يؤكّد:
«أنا لا أدعو الشريعة العهدَ القديم، إذا ما فهمتها بالروح. الشريعة تُصبِح عهدًا قديمًا لمن يُريدون فهمها بالجسد فقط… بالنسبة لنا، نحن الذين نفهمها ونطبّقها بالروح وحسب معنى الإنجيل، فإنّ الشريعة هي دومًا جديدة، والعهدان هما بالنسبة لنا عهدٌ جديد» (العظة في سِفر العدد 9/4).
🌟 خاتمة وتعليم روحي
إنّ أوريجينوس يُذكّرنا بأنّ القراءة المبتهلة للكتابات والالتزام الأمين في الحياة، تُجدّد الكنيسة دومًا وتُجدّد شبابها. كلمة الله، التي لا تشيخ ولا تنضب، هي الوسيلة لبلوغ هذا الهدف.
📖 تعليم أوريجينوس حول الصلاة والكنيسة
✝️ الصلاة كطريق لفهم الكتابات المقدسة
في الحقيقة فإنَّ أوريجينوس، وهو صاحب مؤلَّف هامّ دومًا “عن الصلاة”، يجمَع بشكلٍ مستمرّ بين إنتاجه التفسيريّ واللاهوتي وخبراته العملية المتعلقة بالصلاة. فبالرغم من غناها الفكريّ، فهي ليست معالجة أكاديميّة صرفة؛ بل ترتكز دومًا على خِبرة الصلاة والاتصال بالله.
يرى أوريجينوس أن فهم الكتابات المقدسة يتطلب أكثر من الدراسة النظرية؛ فهو يعتمد على الحميمية مع المسيح والصلاة. ويؤكد أن المحبّة هي الطريق الأمثل للتعرّف إلى الله، إذ لا يمكن الوصول إلى “معرفة المسيح” حقيقةً دون الولع به.
في رسالته إلى غريغوريوس يقول:
«كرّس نفسك لِقراءة الكتابات الإلهيّة؛ وانكبّ على هذا بِثبات. والتَزِم بِالقراءة بِقصد الإيمان بالله وإرضائه. وإذا وجدت نفسك أثناء القراءة أمام باب مُغلق، فاقرع الباب وسيفتح لك ذاك الحارس الذي قال فيه يسوع: “الحارس سوف يفتحه له”… ولكن لكي تفهم أمور الله لا بدّ لك من الصلاة» (الرسالة إلى غريغوريوس 4).
💖 المحبة كأساس للمعرفة
ينبع المستوى الأعلى في معرفة الله، حسب أوريجينوس، من المحبّة، تمامًا كما في العلاقات البشرية. فهو يشير إلى استخدام الفعل «عَرَفَ» في العبريّة للتعبير عن ممارسة الحب البشري، كما في سفر التكوين: «وعرَفَ آدمُ حوّاءَ امرأته فحملت» (تكوين 4/1).
بهذه الوحدة في المحبّة يصبح المؤمن “اثنان في روح واحد” مع الله. ويصل أوريجينوس في هذا الطريق إلى أعلى مستويات التصوّف، كما يشهد له في عظاته على نشيد الأناشيد:
«غالبًا – والله شاهد على ذلك – ما شعرتُ أنَّ العريس كان يقتربُ منّي إلى أعلى درجة؛ ثم يغيب عنّي فجأة، ولم أستطع إيجاد ما كنت أبحث عنه…» (العظة في نشيد الأناشيد 1/7).
يوضح التقليد الرهباني لاحقًا، كما يذكر يوحنا بولس الثاني، أن الصلاة تتطور كحوار حب حقيقي حتى يتملك الحبيب الإلهي الإنسان بكليّته، ويصل إلى فرح روحي عميق.
⛪ تعليم أوريجينوس عن الكنيسة وكهنوت المؤمنين
يركّز أوريجينوس في عظاته على كهنوت المؤمنين العام، ويؤكد على أهمية التحضير الروحي لممارسة الكهنوت:
- الطهارة واستقامة الحياة: ضرورة الالتزام بسلوك مستقيم ونقاء داخلي.
- الإيمان ومعرفة الكتابات المقدسة: شرط أساسي لتقديم الذبيحة على مذبح الله.
- الاستعداد والممارسة العملية: كما في العظة التاسعة عن سفر اللاويين، حيث يشير إلى ضرورة ارتداء الثياب الحبريّة والتحضير للتقدمة:
«فإذا دخل أحد في أي وقت إلى الهيكل من دون الاستعداد اللازم، فسوف يموت… فهذا الأمر يهمنا جميعًا، فهو يعلمنا كيف نحضر أمام مذبح الله» (العظة في سفر اللاويين 9/1-2).
ويؤكد أوريجينوس على أن الكهنوت العام يتطلب طهارة واستقامة وإيمان ومعرفة الكتابات، وأن الاستشهاد هو ذروة درب الكمال:
«إذا أسلمت جسدي ليُحرَق، وكانت فيّ المحبّة، ونلت مجد الاستشهاد، فإنّي أقدّم ذبيحتي على مذبح الله» (العظة في سفر اللاويين 9/9).
🌟 النظر إلى يسوع بروح التأمل والمعرفة
في عظته عن خطبة يسوع في الناصرة (لوقا 4/16-30)، يحث أوريجينوس المؤمنين على توجيه نظرة القلب نحو معرفة المسيح:
«اليوم أيضًا، إذا شئتم، في هذه الجماعة يمكن لعيونكم أن تكون شاخصة إلى المُخلّص… طوبى لتلك الجماعة التي تشهد لها الكتابات بأن عيون الجميع كانت شاخصة إليه!» (العظة في إنجيل لوقا 32/6).
وبهذا، يجمع أوريجينوس بين الصلاة، المحبة، معرفة الكتابات المقدسة، والاستعداد الروحي للكهنوت، ليؤسّس رؤية كاملة لممارسة الحياة المسيحية.
موسوعة قنّشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت