الولادة: –
الوفاة: 290
حياة القديس نوهرا الشهيد – (شفيع البصر)
✨ النشأة والتربية
إنّ القدّيس نوهرا الشهيد كان سريانيًّا من مدينة ساموزات التابعة لإنطاكية من أسرة عريقة في الفضل والفضيلة ووالدين مسيحيّين صالحين صرفا جلّ العناية في تهذيبه وتثقيفه، فأرضعاه لبان التقوى والعلم والأدب منذ طفولته، فقد والديه وهو في الثانية عشرة من عمره، فكرهت نفسه أباطيل الدنيا وبهجتها وعافت زخارفها وبهجتها، وتاقت إلى الحياة الإكليريكيّة أو بالحري نزعت إلى الحياة النسكيّة.
فباع كلّ مقتناه ووزّعه على المساكين امتثالًا لمشورة سيّدنا يسوع المسيح القائل لذلك الشاب:
“إن شئت أن تكون كاملاً امضِ فبعْ مقتناك وأعطه للمساكين فيكون لك كنـز في السماء وتعال اتبعني” (متى 19:21).
فلجأ إلى القدّيس مكاريوس وأكبّ على درس الكتب المقدسة عنده فبلغ منها مبلغًا بعيدًا واتخذ لنفسه حياة نسكيّة بحتة، ولم يكن يتناول من المأكل سوى القليل من الخبز اليابس والأعشاب الخضراء، ولم يقترب من النار مهما كان البرد قارسًا، وكان مزاولًا الصلوات والتأملات وملازمًا الصمت، ولَم يكن يفتح فاه إلاّ لشرح الأسفار المقدّسة. ولما نشأ ونما في العمر والعلم والفضائل، رُسِمَ كاهنًا في إنطاكية، حينئذٍ شمر عن ساعد الجدّ والكدّ بتثقيف الناشئة إذ فتح لها مدرسة أسوة بأستاذه القدّيس مكاريوس، وقد طالما نزعت نفسه إلى الأعمال الخيريّة والتعاليم الروحيّة، فصرف همّته إلى تعليق وتفاسير الكتاب المقدّس الضافية ودحض الارتكاسات وإظهار الحجج البيّنة في الأضاليل.
📖 الإنجازات العلمية والدينية
ثمّ أخلّى ذراعه لترجمة الكتاب المقدّس من العبريّة إلى اليونانيّة، فأصبح نابغة عصره وإمام عصره وحجّة دهره، يحطّ طلاب العلوم رحالهم في فنائه ويستصبح جهابذة النظر بباهر ضيائه، حتى إنّ القدّيس إيرونيموس أخذ عنه من مواد تآليفه وتفاسيره للكتب المقدّسة. فأمسى منقطع النظير بعلومه وأشدّ رجال الدين غيرةً وعملاً في حقل الكنيسة، وأكبر دعامة للديانة المسيحيّة في عصره.
⚔️ الاضطهاد والجلجلة
فأُوُشِيَ به إلى الملك مكسيميان الطاغي الذي أمر بإحضاره، حينئذٍ لجأ إلى البراري عملًا بمشورة سيّدنا يسوع المسيح القائل:
“إذا اضطهدوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى أخرى” (متى 10:27).
وكان هناك كصوت صارخ في البرية ينير بإرشاداته ومثاله وتعاليمه، يهدي ويرشد إلى طريق الخلاص. فأرسل الملك جنودًا فقبضوا عليه واقتادوه إلى السجن، وفي طريقه صادف جنودًا من تلاميذه كانوا قد أنكروا الديانة المسيحيّة خوفًا من الاضطهاد، ولكنّهم عند رؤيتهم هذا القدّيس مقتادًا إلى السجن واستماعهم إرشاداته السديدة عادوا واعترفوا علنًا بالدين المسيحيّ، وكانوا نحو أربعين جنديًّا، فقتلوا منهم بعضًا واقتادوا بعضًا إلى السجن.
وفي مروره أيضًا على مدينة نيقوميديا، وجد قسمًا من المسيحيّين قد ضعفوا في إيمانهم، فشدّد عزمهم وشجّعهم على الاحتمال وثبّتهم في الدين المسيحيّ، ودُعي بحقّ نوهرا أي النور، لأنّه كان منارة بعلومه وفضائله ومثله. فزُجَّ في السجن حيث كان يضاعف صلواته وإرشاداته المفيدة.
✝️ الشهادة والإستشهاد
وقد كتب رسالة من السجن لأهل أنطاكية، وهو أسير يسوع المسيح، يثبّتهم في الدين المسيحيّ. والملك مكسيميان لم يكن يقابله خوفًا من أن يرتشد بأنوار تعاليمه الساطعة، لذلك كان يخاطبه بواسطة ترجمان قائلاً:
«أبعدوا هذا الرجل من أمامي لأنّي أصبحت بخطر عظيم من أن أصير مسيحيًّا من حججه الراهنة».
وقد وعده بأنّه يجعله مساويًا له في العرش إن جحد الدين المسيحيّ، وإن أبى فيذيقه أمرّ العذابات. حينئذٍ سخر القدّيس بمواعيده ووعيده ونادى مكرّرًا: “أنا مسيحيّ”.
فأُعِدّ له خشبة مثقوبة من أربعة مواضع وأُدخِل فيها مضغوطًا، فتكسّرت مفاصله وتخلّعت رجلاه، وأُلقي بهذه الحالة في السجن مع رفقائه مدّة أربعة عشر يومًا، وكانوا يقدّمون له من لحم الخنازير طعام الأوثان، فكان يأبى قائلاً: “أنا مسيحيّ”.
وفي ليلة عيد الغطاس زاره بعض تلاميذه، فطلب خبزًا وخمرًا ووضعهما على صدره وهو ممدود قائلاً:
“صدري هو مذبح الربّ!” وقدّس الخبز والخمر كما صنع سيّدنا يسوع المسيح في العشاء السرّيّ وناول تلاميذه، وسبحان العناية الإلهيّة التي قيضت له ولتلاميذه هُنيهة، لم يدخل عليهم أحد من الحرّاس.
ولما انتهوا إذا بوزير الملك يدخل على القدّيس ليرى هل هو حيّ أيضًا، فابتدره القدّيس هاتفًا: “أنا مسيحيّ”، فدهش الوزير من شجاعته واحتماله وصبره وسأله: من أين أنت؟ أجاب: “أنا مسيحيّ”. سأله: ما مهنتك؟ “أنا مسيحيّ”. من هم أهلك؟ “أنا مسيحيّ”. وبعد جوابه الأخير طارت نفسه إلى السماء في اليوم السابع من كانون الثاني سنة ثلاثمئة واثنتي عشرة.
🌟 القداسة والشفاعات
وما كان أجمل تأويل الذهبيّ الفمّ لأجوبة القدّيس: فبلاده هي السماء، ومهنته من السماء، وأنسباؤه في السماء. ولفظة نوهرا سريانيّة تأويلها النور، وهو شفيع خاص للبصر.
وكتب العلماء البولنديون المدقّقون: إنّ الملك مكسيميان أمر بعد موت القدّيس نوهرا أن يُعلّق في يمينه حجر ثقيل ويُغرّق في عمق البحر ليُخفى جثمانه ويمحو ذكره، ولكن قوّة الله التي حفظت يونان النبيّ في بطن الحوت سالمًا قد حفظت جسد هذا القدّيس سالمًا مدّة أربعة عشر يومًا. وفي هذا اليوم الأخير أوحى إلى أحد تلاميذه أن يذهب مع رفاقه إلى سيف البحر حيث عيّن له المكان، وهناك يجد جثّته سالمة من الفساد ويدفنوها.
فسار جمهور إلى الشطّ ورأوا حوتًا صاعدًا من البحر يحمل جثّة القدّيس بإكرام، طافًا بها على سطح المياه يشقّ الأمواج آتيًا إليهم، ولمّا بلغ الشطّ وضع جثّة القدّيس ومات فرحًا. وقد نقل التقليد إلينا أشعارًا كانت تنشدها العامّة، نذكر بعضها معرّبًا:
فهـا التنين قد وافـى
على ظهـر يقل النـور
بتبجيـــل وإكــرام
ومن بهج يلاقي الحتـف بشوش الوجه معكافـا
فوق المــوج طوّافـا
تجــاه الناس آلافــا
عنـد الشــطّ مهتافـا
وربّما كان هذا التقليد مصدرًا لاعتقاد العامّة في أسمر جبيل وغيرها من القرى اللبنانيّة حيث يكرّم القدّيس، إذ يظهر أحيانًا على أمواج المياه البحريّة وفي الآبار.