الولادة: 1846
الوفاة: 1920
ابينا البار نكتاريوس، أسقف المدن الخمس، الصانع العجائب ومؤسس دير الثالوث القدّوس في جزيرة آيينا اليونانية
📍 الميلاد والنشأة
وُلِدَ أَنْسطاسيوس (القدّيس نِكتاريوس) سنةَ 1846 م في “سيليفْريا – SILIVRIA” في منطقة “ثْراكي – THRAKI” في بلادِ اليونان، من أبويْنِ تقيَّيْن: “ذيموس” و “فاسيليكي”.
تلقَّى أَنْسطاسيوس دُروسَه الأولى في بلدةِ سيليفْريا إلّا أنَّه لم يستطعْ متابعةَ علومِه بسببِ فقرِ عائلته.
أبدى أَنْسطاسيوس منذ طفولتِه ميلًا شديدًا كي يصبحَ لاهوتيًّا يَكْرِزُ بالإنجيل. فكان عندما يُردِّدُ مع جدَّته المزمورَ الخمسين: “ارحمني يا اللهُ بعظيم رحمتك…” وعندما يصلان إلى “فأُعَلِّمُ الأثمةَ طُرُقَك، والكفرةُ إليك يَرجِعون” كان يضعُ يدَه على فمِ جدَّته قائلًا لها: “جدّتي دعيني أقولُه أنا، أنا سوف أُعَلِّمُ الناس”.
وفي إحدى المرّات عندما ناهز السابعةَ من عمرِه، اشترى مجموعةً من الأوراقِ وأخذ يجمعها ككتاب، فسألَتْه أمُّه: “ماذا تفعل يا بُنيّ؟!” فأجابها: “سأصنعُ من هذه الأوراقِ كتابًا أكتبُ عليه كلامَ الله”.
وكم من المرّات بعد عودتِه من الكنيسة كان يجمع الأولادَ الذين من عمرِه ويتلو عليهم العِظةَ التي سمعها. أمّا أهلُه وأقرباؤه فعندما كانوا يرون حماسَه هذا كانوا يقولون: “تُرى ماذا سيصبح هذا الصبيّ؟!”.
⚓ السفر إلى القسطنطينية والمعاناة الأولى
عندما أصبح في الرابعةِ عشرةَ من عمره ذهب إلى القسطنطينية بهدفِ العمل. وهناك بعد جهدٍ جهيدٍ تَمَّكَّنَ (تَمَّ + مُكِّنَ) من الحصول على عملٍ عند أحدِ أقربائه في معملٍ للدخّان. إلّا أن أجرَه كان قليلًا جدًا ممّا اضطرَّه لأن يمضي أيامَه جائعًا معوِزًا.
كان يزورُ الكنيسة بشكلٍ متواصلٍ مستمدًّا تعزيتَه من الصلاة الدائمة.
وفي أحدِ الأيام كتب رسالةً إلى المسيح طالبًا منه المعونة، جاء فيها ما يلي:
“يا ربّي يسوع، تسألني لماذا أبكي. ثيابي اهترأتْ وحذائي تخرَّق، وأنا حافيَ القدمينِ، موجوعٌ متضايق. نحن في فصل الشتاء وأنا بردان. البارحةَ مساءً أعلمتُ صاحبَ المحل بحالي فسبَّني وطردني. قال لي أن أكتب رسالةً إلى القرية حتى يبعثوا لي بما أحتاجُ إليه. ولكني، يا ربّي يسوع، منذ أن بدأتُ بالعمل لم أُرْسِلْ لوالدتي قرشًا واحدًا… ماذا تريدني أن أعملَ الآن؟… كيف أعيش بلا ثياب؟… ثيابي أرتيها فتعودُ وتتمزَّق من جديد. سامحني على إزعاجي. أسجد لكَ وأمجِّدُك.
خادمُك أَنْسطاسيوس”
ثم طوى الرسالةَ ووضعها في ظرفٍ وكتب العنوانَ التالي: “إلى ربّنا يسوع المسيح في السماوات”.
لكن موظفَ البريد عندما رأى هذا العنوانَ الغريب فتح الرسالةَ وقرأها، وكان لها وقعٌ كبيرٌ في نفسِه، فأعطى أَنْسطاسيوس مبلغًا لا بأس به من المال. فأخذَه أَنْسطاسيوس شاكرًا واشترى ثيابًا وحذاءً وبعضَ الحاجيات الأخرى.
إلّا أنّ صاحب العمل عندما رأى ثيابَه جديدة طرده متّهمًا إيّاه بالسرقة، فذهب وعمل في أحدِ المحال.
🌊 العاصفة والصليب
كان أَنْسطاسيوس يتوقُ دومًا لزيارةِ الأماكن المقدّسة، وهكذا في أحد الأيام عزم على السفر بحرًا إلى المدينة المقدّسة. لكنّ المركب في مسيرته الطويلة واجه عاصفةً هائلةً وأُشْرِفَ على الغرق.
فصرخ القبطانُ بالمسافرين كي يلجأوا إلى قوارب النجاة. إلّا أن أَنْسطاسيوس صرخ إلى ربّه قائلًا: “كيف تسمح بهذا؟! لا أريد أن أموت، أريد أن أحيا كي أكرز بك”.
وأخرج صليبَه الذي أعطته إيّاه جدّته من عنقه وربطه بزناره ودلّاه إلى البحر ثلاثَ مرات، ويا للعجب! إذا بالعاصفة تهدأ فأخذ الجميع يمجّدونَ الله وعمَّ الفرح.
لكن أَنْسطاسيوس أضاع صليبَه إذ أفلَتَ من يده في مياه البحر…
وفي أثناء مسيرتِهم أخذوا يسمعون ضرباتٍ في أسفل المركب. فأُرْسِلَ بحّارةٌ ليروا الأمر، لكنهم لم يجدوا شيئًا.
وعند وصولهم إلى الميناء عادوا فسمعوا هذه الضربات. فأُرْسِلَ قاربٌ كي يبحث عن السبب. وعندما توجّهوا إلى مكان الصوت فإذا بهم يجدون صليبًا صغيرًا — وكان صليبَ أَنْسطاسيوس!
فلبسه منذ ذلك الحين طوال حياته.
⛪ في القدس ثم خيوس
هناك في مدينة القدس توظّف في مدرسةِ القبر المقدّس حيث أخذ يعلّم في الصفوف الابتدائية بينما يتلقّى الدروسَ في الصفوف العليا، وكان يعكف على مطالعة كتب الآباء وخاصةً حياة القدّيسين.
هذه الفترة من حياتِه كانت ذهبيةً إذ عمل في حقل الكنيسة. لم يفتنه العالمُ في شيء، بل المصلوب والكنيسة الأرثوذكسية المصلوبة.
وفي العشرين من عمرِه ذهب إلى جزيرة “خيوس” في بلاد اليونان، وسكن في قرية “ليثي” حيث عمل فيها مدرسًا مدة سبع سنوات.
ترسّخت في نفسه خلال هذه السنوات بديهيتان:
أولاهما أن كل إنسان مولودٌ خاطئًا شاء أم أبى، وأن هذا العالم موضعُ السقطات.
وثانيتهما أنّ الرب يسوع المسيح هو المخلّصُ الأوحد.
وكان معروفًا ببساطته وصدقه وأمانته. وفي البيت كان يغلق على نفسه عاكفًا على الصلاة والصوم.
🕊️ الترهّب والسيم الكهنوتي
لكن شوقه للحياة الملائكية كان يزداد، فذهب إلى دير جزيرة “خيوس” وترهّب فيه. وبقي ثلاثَ سنواتٍ مجاهدًا.
وفي عام 1877 م سامه ميتروبوليت الجزيرة شمّاسًا باسم “نكتاريوس” في كنيسة القدّيس مينا العجائبي.
📚 أثينا – الإسكندرية – الامتحان
أُرْسِلَ نكتاريوس إلى أثينا لإتمام دراسته، ثم إلى بطريرك الإسكندرية “صوفرونيوس”. فأرسله البطريرك من جديد إلى أثينا ليدرس اللاهوت، فنال إجازة اللاهوت عام 1885 م.
ثم عاد فسِيمَ كاهنًا سنةَ 1886 م وعُيِّنَ واعظًا وأمينًا لسرّ البطريركية، ثم وكيلاً بطريركيًا في القاهرة.
ومضت خمس سنوات، بعدها سِيمَ ميتروبوليتًا على “المدن الخمس – PENDAPOLEOS”.
لكن وُشِيَ به ظلمًا بأنه يسعى إلى البطريركية، فصدّق البطريرك الوشايةَ وطرده خارج مصر.
فَقَبِلَ القدّيسُ الأمرَ بشكرٍ ومن دون تذمّر.
⚖️ المحن في أثينا
أتى نكتاريوس إلى أثينا عامَ 1889م فقيرًا لا يملك شيئًا، وطاردته الوشاية. وبقي سنةً دون عمل.
ثم عُيِّنَ في “خلكيذة” فخدم سنتين ونصفًا. وبعد أن وصلَت رسالةٌ من الإسكندرية توضّح الحقيقة، تغيّر موقف السلطات الكنسية.
فنُقِلَ إلى “لاكونية”، ثم “افثيوتيذة”، ثم عُيِّنَ مديرًا للمدرسة الإكليريكية “روزاريو” عام 1894م.
🏫 مديرًا للمدرسة – مثال المحبة
كان يعطي نفسه بالكامل لخدمة الآخرين. وظل مديرًا 14 سنة، يعِظ ويكتب ويسترشد به الشباب والشابات.
ومرضَ الموظفُ المسؤول عن التنظيفات فأوصاه الأطباء بالراحة. فلم يُرِدِ القدّيسُ أن يخسره، وكان هو نفسه ينهض في الفجر لينظف الساحاتَ والممرات، ويدفع للموظف الأجر المعتاد.
🌿 نحو التأسيس الرهباني
أحبّ القدّيس حياةَ الرهبنة، وكان يسعى لتأسيس دير.
وحين رغبت ثماني فتيات من أولاده الروحيين بالترهّب، أتى بهنّ إلى دير الثالوث الأقدس في جزيرة “آيينا – AIGINA”.
وكان ينتقل من أثينا إلى الدير مرتبًا شؤونهن الروحية والمادية.
ويروى أنّه عندما أتى القدّيس نكتاريوس إلى “آيينا” للمرة الأولى حدث ما يلي:
كان يوجد في الجزيرة شابٌّ يدعى اسبيرو وفيه شيطان، هذا كثيراً ما كان يتنبأ بأمور، أحياناً صحيحة وأحياناً كاذبة. وفي ذلك اليوم الذي أتى به القدّيس إلى الجزيرة، أغلق اسبيرو عينيه وأخذ يصرخ ويقول: “إنّ نكتاريوس آتٍ، هذا سوف يخلّص الجزيرة. القدّيس يأتي، هذا سوف يخلّصنا، فاستعدّوا لاستقباله”. وكان الناس يسمعونه دون أن يفهموا شيئاً، فنادوا الكاهن ميخائيل من الكنيسة، الذي أتى وسمع بنفسه ما يقوله اسبيرو، فاحتار في الأمر وما كان منه إلاّ أن ذهب مباشرةً إلى الميناء، وإذا بسفينة تصل في ذلك الوقت وكان عليها القدّيس نكتاريوس، فاستقبله الأب ميخائيل وقال له: “سيّدنا، هناك شابٌ قريبٌ من ههنا قال إنّك سوف تأتي وهو يتنبأ عنك دون أن نفهم شيئاً” فقال القدّيس: “أين هو هذا الشاب؟” فأخذه إلى الموضع الذي كان فيه اسبيرو، فلمّا رآه القدّيس رسم بعصاه إشارة الصليب على فمه، وإذا بالشاب يقوم ويقبّل يد القدّيس. ومنذ ذلك الحين أصبح صحيحاً ودخل المدرسة وأنهى دروسه ومن ثمّ تزوج وأنجب أولاداً. وهذه الحادثة جعلت أهل الجزيرة جميعاً يحترمون القدّيس.
وحدث أيضاً أنّه انحبس المطر وجفّت المياه وعطشت الأرض في الجزيرة، فأتى محافظ الجزيرة مع بعض المسؤولين إلى القدّيس متوسّلين إليه أن يتضرّع إلى الله كي يهطل المطر. فقال لهم القدّيس: “سيتم هذا،لكن ليس الآن، بل في الأحد المقبل، أمّا أنتم فصوموا وكونوا مستعدّين للقدّاس الإلهي والمناولة”. وبالفعل، فقد أتى القدّيس في الأحد المقبل وأقام الذبيحة الإلهية وتضرّع إلى الرب، ومنذ الظهيرة ملأت الغيوم السماء وأخذ المطر بالنزول، واستمرّ مدّة شهرين حتى فاضت الينابيع، فأخذ أهل الجزيرة يتوسّلون إلى القدّيس كي يصلّي إلى الله ليتوقّف المطر، فقال لهم القدّيس: “يا أولادي، إن الله يعرف أكثر منّا ماذا يفعل” وبعد وقت قليل توقّف المطر!…
🕊️ في بداية مجيئه إلى الجزيرة وتأسيس الدير
في بداية مجيئه إلى الجزيرة وتأسيس الدير ساعده كثيرًا الأب ثيودوسيوس بابا كونسطنطينو رئيس دير رقاد السيدة – في آيينا – حيث كان يساعد الأخوات ماديًّا، وكان يؤمّن لهم كاهنًا للقيام بالخدمة الإلهيّة، إلى الوقت الذي أتى فيه القدّيس وسكن نهائيًّا في الدير.
🕊️ استقال القدّيس من عمله في المدرسة
استقال القدّيس من عمله في المدرسة لأسباب صحيّة، وأقام في الدير الذي أسّسه حيث أمضى بقية عمره فيه. عاش القدّيس نكتاريوس في الدير راهبًا حقيقيًّا، وكان شديدًا ودقيقًا في كلّ الأمور، وديعًا متواضعًا، يشعر مع الآخرين ويتعاطف معهم فلم يسمعه أحدٌ في الدير يصرخ أو يشتم، بل كان يبارك دوْمًا.
كان هو كاهن الدير أيضًا وكان يقوم بجميع الخدمات من الاهتمام بالحقل وجلب المياه إلى الدير… إلخ. وكثيرًا ما كان يساعد العمّال.
🕊️ الأب فيلوثيوس زورفاكوس
وإنّ الأب فيلوثيوس زورفاكوس يذكر أنّه ذهب مرة إلى الدير كي يرى القدّيس، وقبل أن يصل إلى البوابة شاهد راهبًا يعمل خارج الدير، وكانت الساعة حوالي الثانية عشرة ظهرًا في شهر آب، فصرخ إليه قائلًا: “أيّها الأب أريد أن أرى سيّدنا المطران”. فقال له الراهب: “ادخل إلى الدير وهناك سوف تراه”. ويقول الأب فيلوثيوس: “لقد دخلتُ الدير وانتظرت، وإذا بي أرى الراهب الذي كان يعمل في الحقل آتيًا. لقد دخل إلى الغرفة وغيّر ملابسه وأتى لعندي. كان هو المطران”.
أحبّ القدّيس نكتاريوس كثيرًا القدّيس مينا، ولا ننسى أنّه شُرطِنَ (شُرْطِنَ) شماسًا في كنيسة القدّيس مينا في جزيرة “خيوس”، وكان يظهر له القدّيس مينا بشكل متواصل.
🕊️ ظهور القدّيس مينا
ففي مساء أحد الأيام ذهبت الراهبات إلى غرفته لتعلِمْه أنّ المائدة جاهزة، لكنهنّ رأينه جالسًا مع جنديّ، فعُدن أدراجهنّ دون أن يقلن له شيئًا، لأنّه كان قد أوصى بألّا يزعجه أحدٌ عندما يكون جالسًا مع شخص ما. إلّا أنّ الراهبات أرسلنها من جديد لتعلِمَه أنّ المائدة جاهزة، فذهبت ورأت الغريب يغادر الدير. فسألت القدّيس: “آه يا سيّدنا، من كان هذا الجندي؟” فقال لها: “أشاهدتِه؟” ووضع يده على فمها مشيرًا ألّا تقول لأحد عمّا رأت. وقال لها: “إنّه القدّيس مينا”.
🕊️ معجزة النبع
وحدث أنّه عندما باشروا ببناء الدير، كان يُؤخَذُ (يُؤْخَذُ) الماءُ من نبعٍ لأحد جيرانهم، ولكن بما أنّ الماء كان قليلًا امتنع صاحب النبع عن إعطائهم ماءً من نبعه. فلجأ القدّيس إلى الصلاة، وكانت النتيجة أنّ النبع فاض بشكل ملحوظ ممّا جعل صاحب النبع لا يكتفي بإعطاء الدير ماءً منه، بل وهب نبعه للدير. وهكذا كان القدّيس باتكاله على الربّ يعبر كلّ الصعوبات التي تواجهه.
🕊️ القدّيس والكتابة
اهتم القدّيس نكتاريوس بالكتابة أيضًا، فكان يُمضِي الليالي ساهرًا، مصلّيًا مواظبًا على المطالعة والكتابة. وترك لنا العديد من المؤلّفات المفيدة جدًا، منها: (حول الانشقاق – الخريستولوجية – الإعلان الإلهي في العالم – أهمية المجامع المسكونيّة السبعة – المعرفة الحقّة والمعرفة الكاذبة – الأخلاق المسيحيّة – خلود النفس – الاعتراف – سرّ الشكر الإلهي – دراسة حول التوبة – كنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة – حول الأسرار الإلهيّة – تاريخ الصوم المحدَّد من قبل الكنيسة… إلخ). وهناك العديد من كتبه لم تُنشَرْ (تُنْشَرْ) بعد.
🕊️ موهبة معرفة الأمور المستقبليّة
كان يملك موهبة معرفة المستقبل، فكان يحذّر الكثيرين من أمور ستحدث معهم ويساعدهم على خلاص نفوسهم:
عندما أنهى الأب فيلوثيوس زورفاكوس الخدمة العسكريّة أراد الذهاب إلى جبل آثوس كي يترهّب هناك، لكن القدّيس نصحه بأن يذهب إلى دير “لونغوفارذة” في “باروس – PAROS”. إلّا أنّ الأب فيلوثيوس أبدى تحفّظًا تجاه كلام القدّيس الذي قال له: “إن شئت فاذهب إلى الجبل، لكنّك في هذا الدير ستنتهي، وفيه ستقضي حياتك”. وبالفعل قرّر الأب الذهاب إلى الجبل مع أحد أصدقائه للترهّب هناك، وعندما وصلا إلى تسالونيك – وكان الأتراك ما زالوا فيها – أرادا السجود للقدّيس ديمتريوس في كنيسته، لكن الأتراك قَبَضُوا عليهما وقِيدًا (قِيدًا = قُيِّدَا) وسِيقَا (سِيقَا) إلى المحكمة، حيث حُكِمَ (حُكِمَ) عليهما بالسجن، فَقُيِّدا وسِيقَا (سِيقَا) إلى السجن. وفي طريقهما صادفا الباشا الذي أطلق سراحهما، فتذكّر الأب فيلوثيوس قول القدّيس له: “اذهب، لكنّك في أحد الأيام سوف تعود”. فعاد أدراجه وذهب إلى دير “لونغوفارذة” وأمضى بقية حياته فيه.
🕊️ نبوءة الراهبة
وحدث أيضًا أنّ ابنة عمّ إحدى الراهبات حضرت لزيارة الدير لعدّة أيام ثمّ عادت إلى بيتها، وبعد فترة تزوّجت. فأخبرت الراهبات القدّيس بأن (فلانة) قد تزوّجت. فقال لهنّ: “هذه سوف تصبح راهبة”. فقلن له: “كيف ستصبح راهبة وها نحن نقول لك إنّها تزوّجت؟” فأجابهنّ: “ستصبح راهبة، إنّي أراها أمامي لابسة الجبّة”. وفعلاً، بعد عدّة سنوات تُوُفِّيَ زوجُها (تُوُفِّيَ)، فترهّبت وأصبحت رئيسة دير القدّيس مينا في الجزيرة نفسها.
🕊️ رجل صلاة
عرف الجميع القدّيس نكتاريوس رجل صلاة. فكان يشفي بصلاته المرضى ويُخرِجُ (يُخْرَجُ) الشياطين من نفوس الكثيرين. وبالرغم من هذا كلّه فقد واجه صعوبات كثيرة ووشايات كاذبة، هكذا شاء له الله أن تكون حياته جهادًا مستمرًّا مع شدائد وضيقات.
🕊️ اتّهامات باطلة
اتّهمه البعض بالكبرياء والفريسيّة، وأنّ كلّ ما يقوم به ليس إلّا تكبّرًا، وأنّه إنسان كاذب مراءٍ. كما اتّهمه البعض الآخر باللاأخلاقيّة حتى توصّل البعض لأن يتّهموه بالزنى وأنّه يُنجبُ (يُنْجَبُ؟ لا—هو فاعل وليس مجهولًا) أولادًا ويرميهم في البئر.
🕊️ حادثة المرأة “كيرو”
وحدث مرة أنّ امرأة تدعى “كيرو” كان لها ابنة في السادسة عشر من عمرها، وهذه الأمّ لم تكن طبيعيّة، وقد حاولت عدّة مرات أن تُميتَ ابنتها. فهربت الابنة المسكينة أخيرًا ولجأت إلى الدير، فقبلها القدّيس وحماها. لكن الأمّ حقدت على تصرّف القدّيس وأخذت تُشيع عنه أنّه رجل زانٍ، وذهبت إلى المحكمة في “بيرية – PIREA” (ميناء أثينا) وقالت إنّ نكتاريوس الذي يدّعي نفسه أنّه راهب أخذ ابنتي إلى ديره، مع العلم أنّه رجل لا أخلاقي… وأخذت تبكي طالبة أن يعيد لها ابنتها.
فأخذ النائب العام جنديّين وتوجّه إلى جزيرة “آيينا” وقصد الدير، وعندما وصله دخل دون استئذان، وتوجّه نحو الشيخ القدّيس الذي بلغ آنذاك من العمر السبعين سنة، قائلًا له: “أيّها الراهب المرائي، أين تضع الأولاد الذين تُنجِبُهم؟ أهذا ما تفعله هنا؟” ثم أمسك به من جبّته وقال له ساخرًا: “سوف أنتف لك لحيتك شعرةً شعرة”. أمّا القدّيس فبقي صامتًا ولم يجبه بشيء سوى أنّه رفع عينيه إلى السماء وقال: “الله يرى ويعرف كلّ شيء”.
وبعد مضي أسبوع أُصِيبَ (أُصِيبَ) النائب العام بآلام قاسية جدًا، أمّا يده التي شدّ بها القدّيس فقد أُصيبَتْ (أُصِيبَتْ) بغرغرينا قوية جدًا أخذت تتفشّى بسرعة كبيرة في جسمه، ممّا أذهل الأطباء الذين عجزوا عن علاجه ومعرفة سبب ذلك. وبعد شهرين أتت زوجته إلى الدير طالبة مقابلة القدّيس، وعندما دخلت إليه ركعت أمامه متوسّلة إليه أن يغفر لزوجها المهدّد بالموت، فأجابها القدّيس: “لم يكن في قلبي أيّ حقد تجاه زوجك، لا بل وقد سامحته من اللحظة الأولى، كما أنّي سوف أتضرّع الآن إلى الربّ من أجله”. لكن إرادة الربّ كانت أن يُتَوَفّى (يُتَوَفَّى) ذاك الرجل بعد أيام قليلة جزاءً عمّا فعله.
🕊️ سنواته الأخيرة
عاش القدّيس نكتاريوس في ديره مدة /12/ سنة، وفي عام 1920م أُصيب بآلام وأوجاع شديدة فذهب إلى دير للسيدة العذراء – في الجزيرة ذاتها – كي يتضرّع إلى أيقونة والدة الإله من أجله. وقضى ساعات طويلة أمام الأيقونة راكعًا يصلّي، ومن ثم عاد إلى ديره، وأثناء عودته قال للراهبة نكتاريّة التي كانت ترافقه: “هذه آخر مرة أبارك فيها الدير، لأنّي أرحل”. فسألته الراهبة: “إلى أين ستذهب يا أبي؟” “إلى السماوات”. “ونحن ماذا سيحلّ بنا بدونك؟” “أنتم سوف يأتون كثيرون ليهتمّوا بكم، لا تقلقي”.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت آلامه قوية جدًا، فنقلته الراهبات إلى المستشفى في أثينا. وهناك سأل الممرّض الراهبة: “أراهبٌ هو؟” أجابته: “إنه مطران!” قال لها: “دَعي المزاح الآن، ما اسمه ومن هو؟” أجابته: “إنه مطران المدن الخمس. إنه نكتاريوس!” فقال منذهلًا: “مطران هو، ولا يحمل ذهبًا على صدره! ولا يملك درهمًا!”. فحقًا لم يملك القدّيس نكتاريوس درهمًا البتّة، بل عاش كأحد الفقراء المتواضعين!
🕊️ رقاده المبارك
وبقي في المستشفى مدة شهرين تقريبًا معانيًا الآلام والأوجاع القاسية، ومن ثم غادر هذه الدنيا في التاسع من تشرين الثاني عام 1920م بعد أن تناول الأسرار الإلهيّة.
وبينما يلفظ القدّيس أنفاسه الأخيرة ألبسته الراهبات ثيابًا جديدة. وعندما ألبسوه القميص، وُضِعَ (وُضِعَ) قميصه القديم على السرير المجاور، الذي صدف أن كان عليه شخصٌ أعرج، فإذا به يصحّ ويقوم ماشيًا ممجّدًا الله. أمّا الغرفة فقد امتلأت برائحة زكيّة فاضت من جسد القدّيس.
🕊️ دفنه
وفي اليوم التالي نُقِلَ (نُقِلَ) إلى ديره في “آيينا” حيث رافقه جمع غفير من الكهنة والناس، واستقبله أهل الجزيرة بالبكاء بينما كانت الأجراس تدقّ، ووُضِعَ (وُضِعَ) في كنيسة الدير. وعند المساء أُقِيمَتْ (أُقِيمَتْ) صلاة الجناز، وأثناءها عرق كتف القدّيس، وكثيرون أخذوا من عرقه بواسطة مناديلهم بركة منه. ثمّ دُفِنَ (دُفِنَ) في قبره في الدير.
أما قصة هذا القبر فهي كالتالية:
قبل أن يذهب القدّيس إلى دير الثالوث الأقدس كانت تقيم فيه راهبة بسيطة. أرادت هذه الراهبة في إحدى المرات أن تزرع شجرة حور، فأخذت الشتلة وذهبت إلى المكان الذي تريد زرعها فيه، فسمعت صوتاً يقول لها: “لا تزرعيها هنا، ابتعدي قليلاً اتركي مكاناً لقبرٍ في هذا المكان” فلم تردّ على الصوت. فعادت وسمعت الصوت ثانيةً، إلاّ أنها لم تصغ أيضاً. عندئذٍ شعرت بيد خفيّة تدفعها إلى الوراء…وهكذا زرعتها في المكان الذي حدّده لها الصوت، وهذا كان قبر القدّيس.
الراهبات كنّ قد وضعن القدّيس في قبر آخر، إذ لم يكن قد أُعدّ قبره بعد. وبعد خمسة أشهر إذ أردن نقله إلى قبره المعدّ له فكّرت الرئيسة قائلة في نفسها، كيف سيفتحن القبر إذ لا بدّ وأن جسده قد أنتن. ففي تلك الليلة ظهر القدّيس لإحدى الراهبات وقال لها: “كيف حالك؟ فأجابت الراهبة: “حسنةٌ بصلواتك” “اقتربي منّي كي أباركك” وباركها كعادته، ثمّ قال لها: “هل تخرج منّي رائحة؟” ” لا !” “هل أنت متأكدة أنّه لا تخرج مني رائحة كريهة؟” “نعم يا أبتِ، من يقول عنك أنك لست نظيفاً؟” “الرئيسة، هي تقول هكذا، انظري إليّ حسناً، ألستُ كاملاً؟” “نعم يا أبتِ”. وبالفعل عندما أخرجوه لم يكن جسده قد اعتراه أيّ فسادٍ بل كان يشحّ برائحة زكيّة. فأزالت الراهبات عنه التراب ووضعنه في قبره.
وقد أتى رئيس أساقفة أثينا وتحقّق من الأمر وأعلن أنّ هذا دليل قداسة الأب نكتاريوس. ومن ثمّ أعلنته البطريركية قدّيساً بشكل رسميّ عام 1961م. وأُقيم زياح ٌ كبيرٌ في “آيينا” حضره جمع من المؤمنين، الذين طافوا شوارع المدينة احتفالاً وطلباً لشفاعة القدّيس. وفي عام 1963م وضعوا بقاياه في آنية فضيّة ووضعوها في كنيسة الدير كي يسجد لها المؤمنون ويتباركون منها.
لقد صنع القدّيس نكتاريوس آلاف العجائب بعد رقاده وحتى الآن، وبدون توقّف وبلا حدود، فلم يعجز أمامه مرضٌ أو شدّةٌ من الذين طلبوا منه بإيمان:
إنّ السيد ديمتريوس باناغوبوس – من أثينا – كان رجلاً متزوجاً من /16/ سنة ولم ينجب أولاداً. وإذ سمع بعجائب القدّيس أخذ يصلي ويطلب إليه أن يرحمه. فظهر له القدّيس وقال له: “زوجتك ستحبل وتلد ابناً” وأثناء الولادة قال الطبيب أنّه لا يوجد أمل فالولد سيموت حتماً. أمّا حياة الأم فهي 80 % مهدّدة بالخطر. عندئذٍ ذهب ديمتريوس إلى الكنيسة فوجدها مغلقة، فصلّى من الخارج وقبّل الباب، وعاد مؤمناً بأن القدّيس لن يتركه.وفعلاً أنجبت الأم الولد وسمّوه نكتاريوس وعمّدوه في دير القدّيس في آيينا.
عندما كان القدّيس في آيينا، كان يوجد فيها حارس غير مؤمن ولا مبالٍ. وكان القدّيس يعظه دوماً محاولاً تشجيعه على التوبة والاعتراف والمناولة، إلاّ أن الحارس تجاوزه وأكمل طريقه إلى القهوة، وهناك أثناء الحديث قال للجالسين معه: “التقيت الآن الرئيس، وقد دُهشتُ كيف أنّه ما زال حيّاً حتى هذه الأيام” فسألوه: “أيّ رئيس؟” فقال: “نكتاريوس، رئيس دير الثالوث الأقدس” فقالوا: “ماذا تقول؟ لقد توفّي منذ ثلاث سنوات!” فتعجّب الحارس وأخذ يقصّ عليهم كيف كلّمه. وعلم أنّ القدّيس قد ظهر له من أجل خلاصه، فذهب إلى الدير وتضرّع إلى الرب و إلى القدّيس كي تُرحم نفسه.
في عام 1952م كان الطفل هرقل مفاكيس وعمره /6/ سنوات يعرُج، وبعد الفحوصات في المشفى تأكّد الطبيب من وجود سرطان قويّ جداً في رجله، وبأنّ ساعات حياته أصبحت معدودة. لكن إحدى قريبات هرقل طلبت من الطبيب أن يكتب له وصفة طبيّة كي تتعزّى أمّه قليلاً، وأخذت الوصفة. ولكن عوضاً أن تذهب إلى الصيدلية لشرائها ذهبت إلى بيت أحد معارفها كي تجلب من عندهم أيقونة القدّيس نكتاريوس. وأثناءها صرخ الولد لأهله: “لا تبكوا، فأنا سوف أُشفى” “كيف تعرف هذا؟!” “لقد قال لي القدّيس نكتاريوس إنّي سوف أشفى” “متى؟ كيف؟!” “لقد أتى وظهر لي بلحيته البيضاء الكبيرة ودغدغ وجهي قائلاً: “قل لجدّتك ووالدتك بألاّ يبكين، فأنا سوف أجعلك معافى” وقبل أن تصل عمّته إلى الباب قال لهم ثانية: “عمّتي قد جلبت لي معها القدّيس نكتاريوس” “كيف تعرف هذا يا بنيّ؟!” “لقد قال لي القدّيس ذلك”. وبالفعل دخلت عمّته ومعها أيقونة القدّيس نكتاريوس، ورسمت بالأيقونة شكل صليب على الصبي ووضعتها على صدره، فإذا به يقوم ويمشي معافى!
وعندما حضر الطبيب ليتفقّد حالة الصبي، سألهم عنه ظانّاً أنّه قد مات. فأجابه الصبيّ: “أنا هنا، لقد تعافيت”. وقام الطبيب بفحوصاته وانذهل من الأمر إذ لم يعد يشكو الصبي من أيّ شيء. فتعجّب الجميع ومجّدوا الله وشكروا القدّيس.
عُرف القدّيس نكتاريوس العجائبي لكثرة ما قام به من معجزات في حياته وبعد رقاده، فقد أعطاه الربّ هذه الموهبة والقوّة على الشفاء.
لقد ظلّلت النعمة الإلهيّة حياة القداسة والطهارة التي عاشها من جهادٍ، واحتمال للشدائد والصبر عليها، وطول الأناة، والسهر، والصلوات، وبذل الذات من أجل الآخرين.
وها إنّ بقاياهُ ما زالت محفوظة في دير الثالوث الأقدس في آيينا تعزيةً وبركةً لنا.
طروبارية باللحن الأول
هَلُمْوا أيُّها المُؤمِنُونَ نُكَرِمُ نِكتارِيوس المَولودَ في سيليفريا ورايةَ آيينا, مَنْ ظَهَرَ في الأزْمِنَةِ الأخيرَةْ, ومٌحٍبَّ الفَضِيلَةِ الأصيل. بِما أنَّهُ خَادِمُ المَسيحِ الإلهِي, إذْ يَنْبِعُ الأشْفِيةَ في كُلْ الأحْوال لِلصارِخِينَ إلِيهِ بِإيمانٍ: المَجْدُ لِلمَسِيحِ مَنْ مَجْدِكَ، المَجْدُ لِمَنْ جَعَلَكَ عَجَائِبياً, المَجْدُ لِلفاعِلِ بِكَ الأشْفِيَةَ لِلجَمِيعِ.
قنداق باللحن الثامن
بالتسابيح، وبفرح قلب, لنمدح نجم استقامة الرأي الجديد وحصن الكنيسة المشاد حديثاً, إذ قد تمجد بقدرة الروح, فهو يسكب مواهب الأشفية بغزارة على الذين يصرخون: أفرح أيها الأب نكتاريوس.
تعيد له الكنيسة الأرثوذكسية في 5 / تشرين الثاني من كل عام
وقد سمح الله أن يصل جزء من رفات القديس نكتاريوس العجائبي إلى سوريا وبالتحديد إلى مطرانية اللاذقية وتوابعها للروم الأرثوذكس في عهد صاحب السيادة المطران يوحنا منصور ( متروبوليت اللاذقية وتوابعها للروم الأرثوذكس ) لتوضع في كنيسة البشارة في بانياس يوم الجمعة 9 / تشرين الثاني / 2007 في يوم عيد القديس نكتاريوس وهي بركة حملها صاحب السيادة المطران فينيدكتوس متروبوليت فيلادلفيا وسائر الأردن للروم الأرثوذكس من العاصمة الأردنية عمان إلى سوريا.