الولادة: –
الوفاة: –
يُعدّ اسحق مصدراً مهماً للروحانية الرهبانية في الكنائس الشرقية والغربية معاً ،فهو يأتي في المرتبة الأولى بين الآباء السريان من حيث شهرته العالمية التي تخطّت حواجز كنيسته وبلده .فكتاباته ترجمت منذ البداية إلى اللغات القديمة ولا تزال تُترجم اليوم إلى اللغات الحديثة ويتداولها الرهبان .قرأه السريان الغربيون اليعاقبة _وعدّوه معلماً عظيماً ،ربما لأنهم لم يكتشفوا حالاً هويته النسطورية ،ولما عرفوا ذلك أجروا بعض الرتوشات الطفيفة على كتاباته !ومن خلالهم عرفه الأقباط والأحباش والأرمن،كما شغف به الأرثوذكس على اختلاف كنائسهم.فاعتمده رهبان جبل ((آثوس))دليلاً لهم وسمّوه القديس وكذلك الكاثوليك الغربيون .حياة اسحق الخفيّة وروحانيته العميقة ((من القلب والوجدان)) إستطاعتا أن تذيبا الجليد ،وتزيلا السياجات بين الكنائس المختلفة وتوحّدها حول الروح الواحد ،روح الله الذي يهّب حيث يشاء (يوحنا 3 _8 ).
ما نعرفه عن حياة اسحق قليل ،كله مقتبس من كتاب العفّة لا يشوعدناح البصري (القرن التاسع) ومن الوثيقة التي نشرها البطريرك اغناطيوس أفرام الثاني رحماني في مجلته ((دراسات سريانية )).وفقا لهاتين الوثيقتين ،يكون اسحق قد أبصر النور في قطر على الخليج ودرس هناك الكتب المقدسة والعلوم الدينية .ولما شبّ ،إعتنق الحياة الرهبانية وتبحرّ فيها وصار معلماً ((ربن _سرياني )).
وفي زيارته الرعّوية لكنيسة قَطر التقى به الجاثليق كوركيس الأول (660 _680 )فأعجب به واصطحبه معه إلى بلاد ما بين النهرين إلى دير بيت عابي ،بالقرب من مدينة عقرة ،حيث رسمه أسقفاً لمدينة نينوى (الموصل الحالية ).إلا أن الأسقف الجديد قدّم استقالته إلى الجاثليق بعد خمسة أشهر من تنصيبه .
تُرى ما هي أسباب هذه الاستقالة المفاجئة ؟
تجيب وثيقة الرحماني إن الله وحده عالم بالأسباب التي دفعته إلى الاستقالة .ولكنّ قراءة دقيقة لكتابه تجعلنا نستشف أنه شعر بأنه لم يُدع للقيام بشؤون إدارية ،تهيمن عليها عقلية الامتيازات والكرامات :
يقول في الصفحة الأولى من كتابه: ((قلما نجد أو لا نجد إنساناً يستطيع أن يحمل هذه الكرامات … )
(مقالة 1ص2 ).وفي مكان آخر يقول صراحة : ((ضع نفسك في سبيل الله فتزداد كرامة ..اهرب من المجد فتتمجد ،وابتعد عن الكبرياء فترتفع ))(مقالة 5ص68 ).أمام هذا الواقع قرر الاستقالة بدلا من الاستمرار في وظيفة قد تفقده ذاته … واستقالته من أبرشيته لم تمنعه من الاهتمام بالناس ،بل ما أنفك يكون أباً وراعياً ومعلماً ليس لجماعة محدودة ،بل لكثيرين حتى خارج حدود كنيسته وبلده ولغته .
يقول كتاب ((العفة)): ((حالما ترك اسحق كرسي نينوى صعد إلى جبل ماتوث الذي يحيط ببلد بيث هوزايي وانفرد مع النساك هناك .ثم أقبل إلى دير ربان شابور..)).
هناك ملاحظة وردت في كتاب ((الرؤساء))في ملحق سيرة الراهب قبريانس تقول : ((إن الطوباوي مار اسحق الناسك أسس مقامه في حدود قرية ((حربي ))ليعكف هناك على عيشة بعيدة عن المنظورات )). ويصف لنا كتاب ((العفة))موقع حربي الجغرافي : ((برسهدي الذي شيد ديرا بجانب مدينة حربي على دجلة وأصله من بلاد فارس )).إني أميل شخصياً إلى دمج اسحق النينوي في اسحق الناسك بسبب ما وصفه كتاب((الرؤساء))عن نسكه ،وقد يكون في المرحلة الأولى أقام في ((حربي))ثم انتقل إلى دير مار شابور ،خصوصاً وأن في ذلك الزمان كان يصعب السفر وتحيط به مخاطر كثيرة !ويواصل كتاب ((العفة))كلامه عن اسحق إنه ((كان بصيراً جداً في الكتب الإلهية ، حتى حرم نور عينه بسبب القراءة والنسك.وبعد أن فقد بصره ،أخذ يملي تعاليمه الروحية على تلاميذه الذين أحبوه لرهافة عقله وسمو تعليمه ودماثة خلفه .يقول الأب بيجان في مقدمة طبعته السريانية إن اسحق : ((كان يتناول ثلاث قطع خبز في الأسبوع مع بعض الخضراوات .أما الأطعمة المطهيّة فلم يكن يذقها)).إن طعام المتوحّدين ،أي الذين لا يعيشون حياة مشتركة في الدير ،كان يقوم على وجبة واحدة عادة ،قوامها الخبز والماء وأحيانا قليلا من الطبيخ ،إلا أن المتقدمين منهم في الروحانية ،كانوا يتناولونه مرّة أو مرتين في الأسبوع .وفي دير الربان شابور هذا توفي اسحق ودُفن جثمانه نحو سنة(700 ).
كتاباته :
يقول كتاب ((العفة))إن اسحق ألفَ كُتباً في الحياة الرهبانية ،ولكن من دون تحديد نوعيتها وعددها ((تضلع كثيرا في الأسفار الإلهية وألف كتباً عن سيرة النساك )).وعبديشوع الصوباوي (+1318 )يورد نصاً : ((وضع اسحق النينوي سبعة مجلدات في تدبير الروح)).ثم يقول في مكان آخر إن ((لدانيال طوبانيثا حلاً لمسائل المجلّد الخامس لإسحق النينوي .أما النص الذي نشره الرحماني فيذكر إن اسحق ألفّ خمسة كتب .
إنه لمن الصعب التوفيق بين هذه المعطيات وبين ما وصل إلينا من مؤلفات اسحق .إنّ معظم المخطوطات تحتوي على ما تسميه حديث اسحق النافع في السيرة الرهبانية الذي يضم نحو 82 حديثا وتحت هذا العنوان نشره الأب بولس بيجان Perfectione religiosa De عام1909 في باريس ويقع في 580 صحيفة من القطع الوسط .وقامA.J.WENSINCK بترجمته إلى الإنكليزية سنة1923 تحت عنوان :
Mystic Treatises .هناك مخطوطات أخرى تحتوي على الجزء الثاني من الكتاب ،نشر منه البروفيسورسيبستيان بروك سبع مقالات من كتاب ((النعمة))في CSCO مجلد 554 والترجمة الإنكليزية في المجلد 555 سنة1995 .كما وهناك ترجمات يونانية قديمة قام بها رهبان دير مار سابا بقرب القدس في القرن التاسع ،وترجمة حبشية وروسية ولاتينية ،وترجمات حديثة إلى الفرنسية والإيطالية .أما بالنسبة إلى العربية فتوجد عدة مخطوطات تضم نصوصاً عربية ،فقد قام الشماس عبد الله ابن الفضل ،في القرن الحادي عشر ،بترجمة نحو 35 حديثا (مخطوطة رقم350 لدير القديسة كاترينا في سينا )وفي مخطوطة في نفس الدير تحت رقم364 ترجمة لما أهمله ابن الفضل .وقد نشر بعضاً من هذه الأحاديث الأب بولس سباط في القاهرة سنة1934 .وهناك ترجمة عربية حديثة بعنوان : ((اسحاق السرياني ))نسكيات ،ترجمة الأب اسحاق عطا الله بالتعاون مع معهد اللاهوت في البلمند بلبنان ،في سلسلة منشورات النور 1983 ،وقد ألحقها بخدمة مار اسحق (ص362 _384 ).وهذه الترجمة منقولة عن النص اليوناني المطبوع عام 1770 ثم عام1895 ،وهناك فروقات كبيرة بينها وبين النص السرياني الذي نشره الأب بيجان .كما أن كتاب ((الفيلوكاليا ))يضم مقاطع لاسحق ،وكذلك كتاب سائح روسي ((على دروب الرب ))،منشورات النور 1992 .
لمن يكتب اسحق ؟
واضح أنّ اسحق يكتب للرهبان بشكل عام وللمتوحدين بشكل خاص ،ويستعمل الأسلوب للمخاطب المفرد المباشر ،وكأنه يخاطبك أنتَ بالذات ويريد إرشادك إلى ما تبحث عنه: ((لقد وجدت يا أخي عظاما ..هذه هي يا أخي نصيحتي لك ..يا عبد الله… لقد أصبحتُ مجنوناً يا أحبائي))وأحياناً يستعمل أسلوب السؤال والجواب كما في المقالة 35 .والأسلوب نفسه نجده عند الروحانيين السريان أمثال أفراهاط وسهدونا وشمعون ده طيبوثية .يهدف اسحق إلى مساعدة قارئه على اكتشاف دعوته ((قصة حياته ))وتحقيقها في تفاصيل الحياة اليومية ويسمي هذا الشريط من القناعات والممارسات ب((طريق الحياة)).والحياة التي يقود إليها شبيهة بالحياة من بعد القيامة ، يبلغها المتوحد من خلال مصاحبته الكتاب المقدس والصلاة والدموع ونسيان العالم ونسيان الذات والتأمل بعظمة الله ومجده وتسبيحه فيرفعه الروح القدس شيئاً فشيئاً إلى نعيم غير محدود ..إنها استباق لحياة الدهر الآتي (طالع المقالة35 ).أسلوبه صعب وسبر أغوار روحانيته عمليّة شاقّة .فهو نفسه لم يقم بالكتابة إنما قام بها أحد تلامذته … وخبراته الروحية تفاجئك دوماً بالجديد والعميق ..
روحانيته :
إن تعليم اسحق وخبرته الصوفية لهما طابع الشمولية .فهو في كلامه ،يتناول الإنسان كلّه:الطبيعة ،القوى ،التاريخ ،النعمة ،العهد ،القطيعة ..إنه ينير مكننة قلب الإنسان العميقة لينهض به من الأهواء بعون النعمة الإلهية ،ويرتقي به (مقالة 3ص41 ).يرتكز تعليمه على الكتاب المقدس وهو نقطه ارتكاز وانطلاق : ((ركّز نظرك بانتظام على الكتاب المقدس وثابر على قراءته وتفسيره ،فهو يجنّبك مشاهدة أشياء أخرى غريبة ))(مقالة2ص14 ).وكلمة الله في نظر اسحق تعتنق كل المسيرة الروحية ((بها يؤمن (المتوحد)وبها يتحرك ويتغذى ،وإليها يعود وبها يتكلم ويعبّر (المقالة2 ص17 ).إن مكانة الكتاب المقدس في حياة اسحق ليست استثناءً إنما الكتاب المقدس هو الكتاب الأول والأوحد في الكنيسة السريانية .إنه ((صورة الكتاب))_وإن الأدب السرياني ،لو استثنينا الترجمات الفلسفية والطبية من اليونانية في عهد العباسيين ،لهو أدب ديني محض يُهيمن عليه الكتاب المقدس .واسحق يستشهد بأقوال الآباء الشيوخ ويذكرهم صراحة :باسيليوس ،أفغريوس البنطي ،أنبا أرسانيوس ،ديونيسيوس الأريوباجي ،ثيودورس أسقف مصيصة ((المفسر الطوباوي))،أفرام ،يوحنا المتوحد ،ديودورس الطرسوسي ،ومتأثر بمكاريوس وبآخرين .
على غرار هؤلاء الآباء يرمي اسحق إلى إرشاد الراهب إلى حياة الاتحاد بالله من خلال التأمل المتواصل والتجرّد الكامل والتقشف الصارم والسهر والصلاة والصوم ومحاربة الشيطان والعالم والجسد .ويتخذ المسيح نموذجاً مطلقاً لهذه المسيرة ،ويركز على الألوهة ،وقد تكون رمزاً للثالوث .ويعرض نهجه بكثير من التقنية مقسماً إياه إلى ثلاث مراحل .ويوصي بعدم إحراق المراحل أو القفز ،فالتدرج الروحي يتم على مراحل : ((من يدعي أنه قادر أن يحصل على الفضائل العظمى من دون ممارسة الفضائل الصغرى ،فهو سائر إلى الهلاك لا محالة ،لأن الله صممّ أن تصدر الفضائل الكبرى من الصغرى ))(مقالة 39 ص300 )
وهذه المراحل هي :
1-المرحلة الجسدانية _أو المسلك
2-المرحلة النفسانية
3-المرحلة الروحانية
من خلال هذه المراحل الثلاث يتمكن الراهب من بلوغ ذروة الاتحاد بالله ،والتحرر الكامل من العالم الحسّي .
المرحلة الجسدانية :
على الراهب ،في بدء حياته النسكية ،محاربة الشيطان والعالم والجسد وأهوائهم بواسطة قيامه بممارسة خارجية كالصوم والسهر في الليل والصلاة وتلاوة المزامير .((من الغروب إلى الفجر يقفون _الرهبان
في الصلاة ممجدين الله بالمزامير والتسابيح والمداريش والتراتيل الروحية ))(مقالة 35 ص242 ).يشدد اسحق على التوبة .((أعطيت التوبة للبشر نعمة فوق نعمة … إنها ولادة جديدة ..هي باب الرحمة))
(مقالة43 ص315 ).وتحتل الدموع مكانة كبيرة في تعليمه ،كما في تعليم سابقيه ،وحتى نجد إشارة إلى ذلك في القرآن ((ترى أعينهم تفيض من الدمع ))(المائدة 83 ).((الدموع تقود إلى الحب الكامل لله))
(مقالة35 ص245 )و((إذا بلغت أرض الدموع ،فأعلم أنك قد تخلّصت من سجن هذا العالم ،وإنك قد وضعت رجلك على الطريق المؤدية إلى العالم الجديد وتبدأ تستنشق الهواء المذهل الموجود فيه… ))
(مقالة14 ،ص125 _126 ).ويوصي بمخافة الله كأساس الفضيلة .((إن مخافة الله رأس الفضيلة وابنة الإيمان كما قيل .تُغرس في القلب وتمنحه الفرصة للتخلّص من إغراء العالم ،وتصقل حواسه الشاردة )
(مقالة 1ص1 ).ثم ((إن مخافة الله تنفع الطبيعة البشرية ،وتصدها عن مخالفة الوصايا .أما الحب فيحرك فيه _أي الراهب _الشوق إلى الخيرات التي من أجلها يعمل الصالحات ))(مقالة3 ص30 ).
تمتاز هذه المرحلة بنكران الذات والتجرّد ،يقول اسحق .((أترك الأمور الحقيرة لتحصل على الكريمة .
كن ميتاً في الحياة وحياً في الممات .اجعل نفسك تموت بنشاط ولا تعش في الخطيئة _الدَين )) (مقالة3ص31 ).و((ليكن لديك واضحا أن كل صلاح يتحقق فيك ،ظاهرياً أو خفياً ،هو ثمرة المعمودية والإيمان ،بهما دعاك يسوع إلى كل الأعمال الصالحة ))(مقالة1ص10 ).
إن أجمل ما وصل إليه اسحق هو عدّه حياة الراهب شهادة تقابل شهادة الدم .((ليس الذين يموتون لأجل ايمانهم بالمسيح هم الشهداء فحسب ، إنما الذين يموتون لأجل حفظ وصاياه أيضاً ))(مقالة3ص31 ).
المرحلة النفسانية :
بعد أن يتنقّى الراهب من ((دنس الجسد))يبلغ المرحلة الثانية من مسيرته إلى الله :المرحلة النفسانية .فيها يجدّ لكي يطهر نفسه من الأفكار الغريبة والأهواء الشريرة ليحصل على ((الصفاء)).((نحن نؤمن بما يلي .إن الله لم يخلق صورته قابلة للأهواء وأقول أن صورته لم تكن الجسد ،إنما النفس ،لأنها غير مرئية .كما نؤمن بأن هذه الأهواء غير طبيعية بالنسبة إلى النفس …لأن الألم والأوجاع هي للجسد..))(مقالة 3ص21 _22 ).في هذه المرحلة يسعى الراهب إلى جعل عقله خالياً من كلّ فكر طائش ،وميل منحرف ،وأن يكون قلبه متجهاً نحو الله .((ما هو نقاء الفكر ؟إنه ليس في عدم معرفة الشرور ،وإلا أصبح (الإنسان)بهيمة… إنما نقاء الفكر هو في رفقة الإلهيات التي نحصل عليها بعد ممارسة فضائل كثيرة ))(مقالة 2ص 27 ).
يلحّ كاتبنا على أهمية القلب ودوره في ضبط الحواس وفي إعطاء السلام والأمان للراهب .((القلب مركز الحواس الباطنية وهو المطلق والأصل .فإذا كان الأصل مقدساً ،كذلك تكون جميع الأغصان .وإلا لن يكون هناك أيّ غصن مقدسّ … يتنقىّ الفكر ويُصفّى بمعاشرة الكتب _المقدّسة _وبالصوم والخلوة .أما القلب فيتطهر من كل شيء باحتمال صعوبات جمّة وبعدم مخالطة العالم وبالأمانة الكاملة
ولما يتحرّر من ملاقاة الأمور الحقيرة لا تتُسخ نقاوته .والحواس العفيفة تجلب الأمان للنفس )) (مقالة 3ص29 ).يذكر اسحق أن على الراهب أن يعيش في هذه المرحلة في اليقظة والرجاء والانتظار
المرحلة الروحانية :
عندما تحصل النفس على صفائها الأول يكون الراهب قد بلغ عتبة المرحلة الروحيّة التي هي ذروة الحياة الصوفيّة .ويعدّها هبة مجانية من الله .((إذا غذّى _الراهب _شوقه الطبيعي بالحقائق الإلهية التي ذكرتها ،ويبحث بدون كلل عنها ويتعمق فيها ،بعد أن يتغلب على أهوائه ويضبطها ،ويصون نفسه ، ويتضرع إلى الله في صلاة حارة مستمرة ،أذاك _إذا شاء الله ،أن يمنحه هذه الهبة ،يفتح له الباب ،بسبب تواضعه ،لأن أسرار الله تُكشف للمتواضعين ))(مقالة 12ص122 ).طبيعي إن الذين يحصلون على هذه النعمة هم قلة (مقالة22 ص166 ).
ها هي هذه المرحلة ؟((إن جميع القديّسين الذين عُدّوا أهلاً لها ،السيرة الروحية ،أي الانخطاف في الله اقتيدوا بقوة الإيمان في فرح هذه السيرة الفائقة الطبيعة .إني لا أتكلم عن الإيمان بالتمييز بين أشخاص اللاهوت المسجود له وخواص كل طبيعة … إنما أتكلم عن الإيمان الذي هو نور روحي ،يشرق في النفس بواسطة النعمة))(مقالة52 ص376 ).((المرحلة الروحية هي الممارسة بدون الحواس ..أذاك تكون كثافة الجسد قد تلاشت ،والرؤية روحية … والعقل موجهاً بكامله إلى الله في مشاهدة مجده الخالد)) (مقالة40 ص304 ).ويذكر اسحق ((إن هذا يتّم بتدخل الروح القدس .ويشبه حلول الروح على النفس كحلول الروح القدس على القربان في سر الأفخارستيا .ويكفي لحصول ذلك لحظة واحدة )) (مقالة22 ص172 ).ويوجز المراحل الثلاثة بقوله: ((لا يُمنح الطفل خبزاً قبل أن يُفطم من الحليب ،هكذا الإنسان الراغب في الاغتناء من الله ،عليه الانقطاع عن العالم … إن أعمال الجسد تسبق أعمال النفس ،مثلما في الخلق يسبق الجسد النفس .ومن ليس له أعمال جسدانية لا يمكن أن يكون له أعمال نفسانية .فالأخيرة نتيجة الأولى ،كما السنبلة نتيجة حبّة القمح المجردّة ومن ليس له أعمال نفسانية فهو خال من مواهب الروح))(مقالة4 ص40 _41 ).هذا هو تعليم اسحق النينوي ،الذي غذّى المئات من الرهبان في بحثهم عن الله ،ودعمهم وساندهم خلال حياتهم في انتظار الرجاء السعيد والرؤية الكاملة …
نصوص مختارة
ضرورة الانتقال من الحياة المشتركة إلى الوحدانية :
((من يشتاق إلى الله على مستوى ،بعد مغادرته العالم ،لا ينبغي أن يمكث زمناً طويلاً في الحياة المشتركة .فبعد أن تدّرب على الحياة مع الاخوة ،وتعلم نظام وهدف السيرة ونوع التواضع ،عليه أن يترك ويعيش وحده في كوخ ،حتى لا يعتاد على العيش مع الكثيرين ،فتتحول بساطة البداية إلى التكبّر بسبب فتور الاخوة .لقد عرفت العديد من الاخوة ،كانوا في بداية مغادرتهم العالم أنقياء وودعاء ،لكن بعد زمن قصير ،بسبب العيش مع الكثيرين ،صاروا متكّبرين ومزعجين ،وفقدوا الوداعة الأولى .لذلك على الأخ(الذي يشتاق إلى الله)أن ينعزل عن الجماعة ،ويعيش في ألفة مع شيخ واحد مشهود له بحسن السيرة ومعرفة الخلوة ،يعاشره هو وحده ،وعليه يتتلمذ ويتعلم سلوك إخلاء الذات ،ولا يحتك مع أحد غيره ،وسوف يرتقي في زمن قصير إلى تذّوق طعم المعرفة ))(طبعة بيجان ص582 ).
((بالنسبة إلى المبتدئين ،ترتكز أسس السيرة الرهبانية على إخلاء الذات ،وحفظ السكوت ،وعدم التعلّق بشخصٍ ما أوامرٍ ما .عمل السيرة :تحمل الظروف الطارئة ،وممارسة التواضع والقيام بالصلاة .
أما ثمارها :الولوج في رجاء نعيم الاتحاد بالله ،والسبيل الصحيح إلى ذلك هو الحصول على مفاتيح أسرار الروح المجيدة .ونهاية المطاف :تذوّق الحب والدالّة مع من نحب .فإذا كان أحد المبتدئين في هذا السلك لا يعرف إخلاء الذات والخلوة ،فهذا هو بالتأكيد من يعيش ذلك يكون متواضعاً وممارساً الصلاة .وإذا كان أحد فارغاً من هذا ،فهو واقع بالضرورة في اضطراب الخطيئة .لا فقط ليس للخاطئ مكان في الملكوت ،بل له مكان معروف في جهنم ))(ص583 ).
الخوف والمحبة في السيرة الروحية :
((الإنسان العائش في الإهمال يخاف من دنّو ساعة الموت .ويرتعد عندما يقترب من الله ساعة الدينونة وإذ يصل تماماً أمامه ،تبتلع المحبة الاثنين (الخوفين)..كيف يكون ذلك؟عندما يعيش الإنسان في المعرفة والسيرة الجسدية ،يهاب الموت ،وعندما يسلك في المعرفة والسيرة النفسية ،يرتجف فكرهُ كلّما تذكّر الدينونة ،لأنه يعيش مستقيماً على صعيد الطبيعة ،ويتحركّ وفق نظام النفس ومعرفته وسيرته .إنه يتحسن باقترابه من الله ،ولكن حين يدرك معرفة الحق ،يحس باندفاع إلى أسرار الله ،ويثبت على الرجاء العتيد ،حينئذ يبتلع (الخوف)بالمحبة .
إن الإنسان الجسدي يشبه ،في خوفه ،الحيوان أمام الذبح ،أما الإنسان الناطق (العقلي)،فخوفه هو من قضاء الله ،ولكن من كان ابناً يتصرف بدافع الحب وليس خوفاً من القصاص : ((إني وبيت أبي نخدم الرب ))(يشوع 24 _15 ).المحبة تزيل الخوف .إنه (الابن)لا فقط يكون بلا خشية ،بل يتمنى أن يغادر حياة هذه الدنيا .المحبة تحلّ الحياة الزمنية ،ومن أدرك محبة الله لا يعود راغباً في البقاء على الأرض .
أيها الأحّباء :لقد أصبحتُ أحمق ،ولا أتحمّل حفظ السرّ في السكوت .إني ارتضي بأن أكون جاهلاً لفائدة اخوتي ،لأن الحبّ الحق لا يستطيع أن يحبس لنفسه شأنا من شؤون الحب ،ويحرم منه أحبّاءه .مرات كثيرة حينما كنت أكتب هذه الأمور ،كانت أصابعي تتوقف على الكراس ،لأني عجزت عن مقاومة السعادة التي كانت تغمر قلبي وتُسكت حواسيّ .لذلك ،طوبى لمن يعيش على الدوام في مصاحبة الله ،مُبعداً نفسهُ عن كل أمور الدنيا ،وماكثاً بقربه هو وحده ،عائشاً في معرفته .وحتى لو طال صبره ،فلن يتأخر كثيراً عن جني الثمار .الفرح بالله أقوى من حياة الدنيا ،من اكتشفه ،لا يبقى على مستوى الأهواء فحسب ،بل لا يبالي بحياته ،وليس له شعور آخر غير هذا الفرح ،إذا استعدّ له))
(ص429 _430 ).
أقوال مأثورة :
_ بداية الحياة تقوم على تصويب الذهن على كلمة الله وممارسة الصبر … إنهما أساس الحياة المسيحية (مقالة1 ص2 ).
_ تحرّر أولاً من الروابط الخارجية ،وأسع أن يأسر الله قلبك .فالتحرر من المادة يسبق التوحد (التنسك)بالله (مقالة4 ص40 ).
_ النفس التي تحب الله تجد راحتها في الله وحده (مقالة4 ص40 ).
_ أحبب الصمت أكثر من أي شيء آخر .فالصمت يقربّك من الثمر الذي يعجز اللسان عن وصفه ولا تدري أي مقدار من النور سوف يشرق فيك .(مقالة65 ص443 ).
_ الحب يزيل الخوف (مقالة65 ص431 ).
_ إن الحب أعذب من الحياة ،وفهم الله النابع منه أعذب من العسل (مقالة 65 ص )_ لتتأرجح كفّة الرحمة في كل حياتك حتى تحس بالرحمة التي يحملها الله للعالم (مقالة65 ص455 ).
_ التوبة أمّ الحياة ،بها تفتح لنا الحياة بابها وتعيد إلينا النعمة التي فقدناها بعد المعمودية (مقالة65 ص443 ).
المراجع :
1 _ كتاب اسحق نفسه في ((الحياة الرهبانية))(بالسريانية ).
2 _ ألبير أبونا ،أدب اللغة الآرامية ،بيروت 1970 ،وخلاصات الأدب السرياني الأخرى .
3 _ Elic Khalife _Hachem ,Isaac de Ninive _Dictionnaire de Spiritulite t. VII Paris 1971 pp.2040 _2054 ).
ودراسة الأب ألياس خليفة تُعد أفضل دراسة لروحانية اسحق حتى اليوم .أضف إليها المراجع المذكورة في الهوامش .
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت