الولادة: 355
الوفاة: –
⭐ ما يعني اسم أبا فانا؟
يُسمّى بالقبطيّة الصعيديّة (آفا فانا)، وبالقبطيّة البحريّة (آفا قيني)، وهي تعني: نخلة. وحسب رأي عالم الآثار هِملوت بوشهاوزن فإنّ اسم قيني أي نخلة كان كثير الاستعمال وشائعًا في منطقة هرموبوليس (الأشمونين حاليًا)، وإذا كان القديس مسقط رأسه في ممفيس (جنوب القاهرة) فإنّه يكون قد أُطلِقَ عليه هذا الاسم قيني فيما بعد، وأنّه كان قبلًا يحمل اسمًا آخر. ولكن بعد انفراده في قرية أبو صير القريبة من الأشمونين سُمّي قيني أي النخلة. وبالحقيقة كان هذا القديس مثل نخلة مثمرة ومرتفعة بسبب قامته الروحية العالية وثماره الكثيرة.
🕊️ العصر الذي عاش فيه القديس أبو فانا
وُلد القديـــس في ممفيس سنة 355 ميلاديّة من أبوين تقيّين وبارّين، وكانا غنيَّين في النعمة والثروة، فكانا يمتلكان أموالًا كثيرة. فقد نشأ في بيت شريف وأسرته تقيّة، فنشأ في حياة الإيمان المسيحي.
عاش القديس أبو فانا أو أبيفانيوس في عصر الإمبراطور البيزنطي ثيؤدوسيوس الكبير، أي في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، وهو القرن الذي انتشرت في بدايته الرهبنة في أرض مصر وأصبحت الأديرة تنتشر على نطاق واسع في صحراء مصر وبراريها.
فانتشرت الأديرة في الوجه البحري على يد القديس العظيم الأنبا أنطونيوس، أمّا في صعيد مصر فقد كان انتشارها مثل انتشار النار في الهشيم، وتميّزت النار الإلهية بالإشعاع الإلهي في رهبنة الصعيد بالروحانيّة العالية حيث كانت الأرض البشريّة خصبة لتقبّل الوصايا الإلهيّة والعيش بمقتضاها.
🏛️ الرهبنة في زمن القديس أبو فانا
أسّس القديس باخوميوس الذي عاش بين عامي (286–346م) نظام الشركة في الحياة الرهبانية الجماعيّة، واضعًا أصول هذا النوع من الرهبنة. وقد انتشرت جماعات القديس باخوميوس وشملت أجزاء كثيرة من الصعيد حتى بلغ عدد الأديرة التي أسّسها تسعة أديرة وضمت 5000 راهبًا عدا العذارى.
وازدهرت الرهبنة في الصعيد في القرنين الرابع والخامس وضمت إليها 4000 راهبًا عدا الراهبات. ومن أهم الجماعات الرهبانية تلك التي عاشت تحت إرشاد القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين. وممّا ساعد على إرساء القواعد الرهبانية أنّه عمّر طويلًا (333–451م)، فوضع لها قوانين خاصّة في نظام صارم من النسك في حياتهم الديرية.
🌿 اختيار أبو فانا لطريق الرهبنة
رأى الكثيرين هذه الصحوة الرهبانية، وأنّ طريق الملائكة هو في قلبه، فاختار أبو فام طريق البتوليّة والصلاة والحياة في البرّيّة. فكان يذهب لأحد الآباء الروحيين المختبرين ليُلقّنه قوانين الرهبنة، وواظب على حضور العظات الأسبوعيّة التي يتلوها الرئيس ويستمع إليها المبتدئون، ويدرس الكتاب المقدّس، وكان يظلّ يتردّد فترة على الشيوخ يتدرّب منهم على تعاليم الفضيلة وطريق الجهاد الروحي قبل أن يُسمح له بأن يأتي وينضمّ إلى الشركة مع الإخوة ويخوض في تلك الحياة.
وكان الراهب أبو فانا يترك مسكنه، فوزّع ما كان يمتلكه وقصد الجبل ليحيا وسط هؤلاء النساك ليشاركهم في حياتهم الخشنة عزوفًا عن كل تعزية أو صداقة بشرية، لكنهم مملوؤون من التعزيات الروحيّة والفرح السمائي والسلام الذي يفوق كل عقل. فقد أحبّ حياتهم ووضع في قلبه أن يتشبّه بجهادهم وزهدهم.
وسرعان ما أحضر الميراث الوفير لعائلته المرموقة من ممفيس ووزّعه على الفقراء حين ترك ممفيس إلى هيرموبوليس.
🏜️ وحدة أبو فانا في الصحراء
وانضمّ أبو فام للحياة الرهبانية ومارس حياة الوحدة في الصحراء الغربية غرب قرية (أبو صيرة) في مقاطعة الأشمونين، وسكن في كهف، وأغلق على نفسه يختلي… ومع تدريباته النسكية العنيفة لم يكن يكفّ عن ممارسة العمل اليدوي ليُعطي الفقراء، واهتمّ بتعليم الإخوة الجدد، ووهبه الله عطية عمل المعجزات…
وامتزجت وحدته باتساع قلبه بالحب لله والناس.
📜 سيرة حياة القديس بحسب تلميذه أفرام
سجّل لنا تلميذه أفرام عرضًا مختصرًا لحياته. حياته الرهبانية حيث قال:
“وُلد هذا القديس من أبوين مسيحيّين، فقاما بتربيته في مخافة الله… فنشأ محبًّا ميّالًا لحياة الخلوة والتأمّل مع حنان ومحبة للمحتاجين. أقام وهو شاب بين الرهبان، وتدرّب على الحياة النسكية مع العمل اليدوي لتقديم صدقة للمحتاجين…”
وازداد حبّه للوحدة، فانفرد في مغارة مظلمة. ولما احتاج للماء فوهبه الرب يسوع ينبوع ماء ليشرب منه…
كان يتدرّب على الصوم ليأكل مرة واحدة في كل يوم صيفًا، ومرة كل يومين شتاءً. وكانت حياته هي الصلاة الدائمة، واستطاع أن يقوم بضرب مطانية في النهار ومثلها بالليل…
وزاد في حياة النسك حتى لصق جلده بعظمه، وصار كخشبة محروقة…
وأصبح أملًا ليزوره كثيرون وقدموا إليه أموالًا كثيرة، أمّا هو فلم يأخذها منهم، ولكن حينما ألحّوا عليه أن يقوم بتوزيعها على الفقراء كان يسير في المدن والقرى، وقد تطول فترة تجوّله إلى عشرة أيّام، وهذه كان يقضيها القديس في صوم انقطاعي دون طعام أو شراب.
🕯️ مغارته مركز إشعاع روحي
وكانت مغارته مفتوحة لإخوته الرهبان، وأصبحت مركزًا روحيًّا، وحافظ على عزلته من أجل الصلاة، ولم يُغلق قلبه ولا مغارته عن إخوته، فتحوّل مسكنه إلى مركز إشعاع روحي.
كان الشيوخ المقيمون في الجبل يأتون إليه يسترشدون بخبراته، فألهب قلوبهم بالشوق نحو الكمال المسيحي والفضائل في الرب.
امتلأ الجبل بالرهبان القديسين حتى صار أشبه بخلية نحل تعمل في صمت ونظام هادئ، فامتلأت المغارات بشهد من عسل صلاتهم وطهارتهم، أو أشبه ببرج حمام تنطلق منه أصوات هدير الحمام…
هكذا كانت أصوات التسبيح تنطلق من تلك القلالي (المنشوبيّات).
🕯️ أبو فانا ونظام المنشوبيّات في الرهبنة في الصعيد
كما تأثّر بطريقة الأنبا شنودة في الاهتمام بالإرشاد وضرورة التعليم للجماعة الرهبانية التي جمعت حوله، ويذكر التاريخ أن دير القديس أبو فانا قد ضمّ إليه أكثر من 1000 راهب، وكان من أوائل الأديرة في الصعيد.
وعاش أولئك الرهبان في ما يُعرف بـ نظام المنشوبيّات، وهو نظام يجمع بين حياتَي الشركة والوحدة في آنٍ واحد.
فكان كل جماعة من الرهبان من حِرفة واحدة أو من قرية واحدة يسكنون في منشوبية، والمنشوبية عبارة عن عدة قلالي متجاورة، كلّ راهب يسكن منفردًا في واحدة منها، فتكون كل منشوبية جماعة متناسقة.
وكانت تنتشر هذه المنشوبيّات حول المبنى الكبير وهو الكنيسة التي كانوا يجتمعون فيها للصلاة، وكانت بجوارها مبنى المائدة التي كانوا يتناولون فيها الطعام في شركة معًا، والملحقات الأخرى مثل:
- الفرن
- آبار المياه
- صالة الاجتماعات
- حجرات مخازن الدير
- البئر
- ملحقات خاصة بالزائرين
✨ أمثلة من معجزاته
شفاء الكاهن المريض
أتى إليه كاهن قد أُصيب بمرض في رأسه، خلاله تقرّحت هامته وظهر عظم رأسه، وإذ كان التلميذ أفرام يُلِحّ عليه ليخرج له ويصلّي من أجله لم يلتفت إليه.
وأخيرًا إذ صار التلميذ يُلح أكثر أفهمه أنّه قد دُنِّسَ بيت الله بالزنا، وأخذ النذور وأنفقها على شهواته، فليس له دالّة أن يطلب له الشفاء من الله.
وأخيرًا تحنّن عليه، فأمر تلميذه أن يخرج إليه ويخبره بأنّه إن أراد أن يبرأ من مرضه يعاهد الله ألّا يعود إلى خدمة الكهنوت كل بقية أيام حياته، ويرجع عن سلوكه فيبرأ…
وإذ تعهّد الكاهن بذلك التقى به القديس، وصار يصلّي إليه فتماثل للشفاء حتى عاد سليمًا وبـتوبة صادقة.
إقامة الابن من الموت
جاء رجل ومعه ابنه لينالا بركته، فسقط الابن من الجبل ومات.
حمله الأب إلى مغارة القديس ووضعه أمامه دون أن يخبره، وسأله أن يباركه.
فرشم عليه علامة الصليب وقال له:
“قُم وامضِ إلى أبيك وامسِك بيده.”
فقام الولد حيًّا، وفرح والده وانطرح أمام القديس يشكره ممجّدًا الله صانع العجائب بقديسيه.
علمه بيوم نياحته
علِم القديس بيوم نياحته، فطلب من الكاهن الذي اعتاد أن يحضر ليُقيم الأسرار المقدسة أن يُقيم القداس الإلهي…
ثم تناول وهو واقف على قدميه اللتين تورمتا من كثرة الوقوف… وودّع الإخوة وباركهم طالبًا بركتهم له، ثم رفع صلاة لله وأسلم الروح في يدي الرب في 25 من شهر أمشير.
نبوّته بوفاة الملك
رآه تلميذه أفرام حزينًا، وإذ سأله عن سبب حزنه أجابه بأنّه:
“اليوم طُلِبَت نفس الإمبراطور ثيؤدوسيوس الكبير، وبهذا قد انحلّ رباط نظام الدولة…”
فسجّل التلميذ التاريخ، وبعد زمن قصير نزل إلى العالم فعرف أنّه ذات اليوم الذي تُوُفِّيَ فيه الإمبراطور.
🌿 نشأته وحياته
هكذا كانت الأشواق المتزايدة في قلب أبو فانا في الجبل، تاركًا خلف ظهره العالم، واضعًا أمجاده وشهواته تحت قدميه.
وفي الجبل الغربي خارج قرية أبو صير (بالقرب من قصر هور في الأشمونين) وجد مغارة مظلمة لا يدخلها نور النهار، ففرح بها وكأنّه وجد ضالّته المنشودة.
(المغارة مازالت قائمة إلى اليوم، وهي تبعد 80 مترًا يمين مباني الدير، وهي مختبئة تحت الأرض ولم تُكْشَف بعد).
ولم يكن الماء متوافراً في المكان، وكان الرهبان يقطعون مسافات طويلة ليحصلوا على الماء من بعض الآبار المتناثرة.
لكن القديس أبو فانا حينما سكن المغارة، وقد وضع رجاءه على الله الذي أحبّه من كل قلبه، مشتاقًا أن يعبده ويلتصق به في هذا المكان بعيدًا عن العالم، حدثت أعجوبة عظيمة: أنبع الله ينبوع ماء عذب عند مدخل مغارته.
وكم كانت دهشة القديس لهذه المعجزة العظيمة!
وامتلأت نفسه بتعزية كثيرة بسبب تلك العناية الإلهية، وهذه العلامة التي صارت من السماء والتي اطمأنّ إليها قلبه أن الله أراد له أن يقيم في هذا المكان. فسكن القديس المغارة كل سنوات جهاده.
🌙 جهاده الروحي في الوحدة المقدّسة
في الوحدة المقدّسة بالمغارة حالكة الظلام، حيث انفرد القديس أبو فانا وكان يبلغ من العمر 22 عامًا، سلك طريق الجهاد الروحي الذي كان قد تدرب عليه من قبل.
كما تدرّج في صوم الانقطاع حتى صار يصوم في الشتاء يومين يومين، وفي الصيف كان يتناول القليل من الخبز والماء والبلح الجاف عشية كل يوم.
وكان يصوم الأربعين المقدسة طيًا بكاملها، عدا الثلاثة الأيام الأخيرة فكان يأكل فيها شيئًا يسيرًا.
وذات مرة سأله تلميذه أفرآم عن سبب فِطاره الثلاثة أيام، فأجاب القديس باتضاع عظيم:
“إن السيد المسيح صام أربعين يومًا ولم يكن في حاجة إلى الصوم،
أمّا الذين صاموا على مثال السيد المسيح وأكملوا أربعين يومًا فكانوا قديسين كاملين.
لكن من أنا المسكين حتى أتساوى مع الذين اختارهم المخلّص كموسى وإيليا؟
وأنا يا ابني إنسان ضعيف.”
وهكذا كان القديس أبو فانا يحبّ الاتضاع، ويكره الافتخار، ويهرب من الكبرياء.
🌅 سهره وزهده ونسكه الشديد
أحبَّ القديس حياة السهر، فكان يقضي الليل كلّه في الصلاة.
وإذا ما غلبه النعاس كان يرقد على الأرض الخشنة.
ولم يكفّ القديس عن ازدياده في التعب حتى أنّه كان دائم الوقوف على رجليه في المغارة.
وعندما كان يتناول الطعام، كان يتناوله واقفًا حتى تورمت رجلاه من كثرة الوقوف، ولصق جلده بعظمه من شدة النسك، وصار مثل خشبة محروقة.
ومع ذلك لم يخفّف من كثرة أتعابه.
وظل مواظبًا في الجهاد والنسك حتى صار جسده مُحْنًى ومقوّس الظهر، ولم يعد يمكنه أن يرقد ممددًا على الأرض.
فكان كلما غلبه النعاس ينام وهو يستند بصدره على جدار مقام خصيصًا لهذا الغرض.
وكان نومًا غير مريح، فيغمض عينيه ويميل برأسه مستندًا على الحائط.
وهكذا قضى ثمانية عشر عامًا حتى يوم نياحته.
وبسبب هذا العيب الجسدي سُمّي القديس “بالنخلة” بسبب تقوّس ظهره من النسك الشديد الذي كان يمارسه في حياته.
❤️ محبّته واتضاعه
تدرّب القديس منذ حياته الأولى على محبّة الجميع، وامتلأ قلبه بهذه المحبة.
فكان يطوف على قلالي ومغاير الرهبان الذين يسكنون الجبل، يقدّم لهم أعمال المحبة بأي شيء يحتاجونه أو يطلبونه، حتى إنه يحمل إليهم ما يجده في مغارته من خبز أو فاكهة أتى بها إليه أحد زائريه.
وكان يهتم بمن يصيبه ضعف أو مرض، وظل القديس طوال حياته لم ينقطع عن خدمة إخوته، فكان هذا العمل موضع دهشة الجميع بسبب محبته وتواضعه واهتمامه بالرهبان.
وبسبب ما اشتهر به القديس من قلب عطوف ممتلئ بالحب، كان يقصد مغارته كل من كان في احتياج أو ضيق، وهو في ثقة من استجابة سؤاله.
وكان القديس لا يرد واحدًا منهم، بل كان يقوم بنفسه لخدمتهم.
🕊️ تعاليمه ووصاياه
كان من أنظمة الرهبنة في ذلك الوقت أن يجمع الأب الروحي أولاده الرهبان عشية يوم الأحد، فيعظهم ويوضّح لهم محاربات الطريق، ويرشدهم إلى الجهاد الروحي وخبرات القديسين.
وكانوا يقضون الليل كله في شركة روحية، وتختم بصلاة القداس الذي يشترك فيه الجميع، ثم يتناولون الطعام معًا على مائدة واحدة، ثم ينصرفون إلى قلاليهم.
وكان القديس يجلس بين أولاده، يرشدهم بتعاليمه وعظاته عن محبّة الله وحفظ وصاياه، وكان يحثهم على الجهاد في الطريق الروحي، ويدربهم على الوصايا والجهاد ليشتد عودهم، وكانوا يسمعون تعاليمه بفرح ويتبارون في تنفيذ التداريب الروحية فكانوا يمتلئون من كل نعمة.
وكان يأتي إليه الشيوخ الذين يسكنون في مغارات أخرى بالجبل ليسترشدوا بخبراته، فكان يُلهب قلوبهم بالشوق نحو الكمال المسيحي والفضائل في الرب.
📜 أقوال القديس أبو فانا
سأل الأخوة القديس ذات مرة عن فائدة نسكه وأتعابه الأولى الكثيرة، فأجابهم:
“الجهاد في بداية الطريق، والذي يكون بنشاط وغير ملل أو فتور من كثرة التعب في الصوم والصلاة وخدمة المساكين وحياة العفة والطهارة، هو أشبه بالخمير الذي يخمّر العجين كله، لأنه الأساس الذي يُبنى عليه حياة الراهب.”
وحينما سمع الأخوة هذا الكلام، مضوا وهم فرحين وممتلئين بالتعزية في نفوسهم.
كما كان يحث أولاده على أعمال المحبة، ويقول لهم:
“يجب علينا أن نعمل الحسنات في الخفاء (مت 6: 2-4)، لأن التظاهر بها يفقدها أجرها، وإن عملناها في الخفاء نصنع لنا أصدقاء روحانيين يكملون عملنا.”
🙏 وصاياه حول قهر الشهوات
قال للراهبة والرهبان:
“حينما سأل التلاميذ السيد المسيح لماذا لم نقدر أن نخرج الشيطان الرديء؟ أجابهم: هذا الجنس لا يُخرج إلا بالصلاة والصوم (مت 17:21). فعلينا أن نكثر من الصلاة والصوم.”
وسأل الأخوة أبو فانا قائلين:
“يا أبانا، إن عندنا قوم يكثرون الصلاة وهم لا يقدرون على إخراج الشياطين؟”
فأجابهم: “هؤلاء لم يقدروا على إخراج الشياطين لأنهم لم يقهروا بعد جميع الشهوات الجسدية والنجاسات الشيطانية ولم يغلبوا الذات. لذلك يا أولادي، علينا نحن الرهبان أن نتقدم في حفظ قوانيننا ووصايانا. وإذا نزل الراهب إلى العالم لقضاء أمر، يجب أن يجعل نفسه غريبًا عن هذا العالم، فلا يتأمل في شيء، ولا يشتهي منه شيئًا، ولا يتهاون أو يحل قانون صلاته أو صومه، حتى لا يجد العدو الشرير سبيلًا يمسكه.”
وتحدّث القديس عن الطريق إلى الله فقال:
“إن الله خلق آدم ليس فيه شيء من الفساد، وكان يحيا مع امرأته في الفردوس كأولاد الله نيرًا بسيطًا مثل طفل بريء، فكان يأكل من أشجار الجنة، وكان يملأه نور الحياة إذ كان يسير في طاعة الله، ولم يدخل في قلبه خوف أو ألم، وكانت بتوليته سببًا لحياته الأبدية. وحينما عرف الشر وكسر الوصية الإلهية بعد أن غلبته الحية وقويت عليه وصار يعرف الخير والشر، وانجذب إلى شهوته، وفقد طهارته وهربت منه روح طفولته البريئة، فإن رجع إلى طهارته الأولى، فإن روح الله يحل فيه، والرب يعيده إلى ملكوته. لأن الذين يسعون إلى الطهارة ويثبتون فيها يصلون إلى المكان الذي سُمّي مدينة الأبكار، لأنهم لم يتنجسوا بأهواء الجسد، لكنهم حفظوا طهارتهم (رؤ 14:4).”
✝️ نياحته
بعد سنوات مملوءة بالجهاد وحياة مزدهرة بالثمر المتكاثر، تزايدت شدة المرض على جسده الضعيف، حتى أصبح ملازمًا للفراش.
لقد جذب القديس أبو فانا الكثيرين بشبكته الروحانية، فأتوا إليه يحيون قداسته وطريقه.
وفي صبيحة يوم السبت، 25 أمشير، وقبل أن يشرق نور الشمس، أتاه المسيح يدعوه ليختم جهاده وينتقل من هذا العالم.
فوقف قائماً ودعا أولاده، وأخبرهم بأن المسيح يدعوه إليه، وأعلن لهم أن الله أراد أن يريحه، وأشار بإقامة القداس الإلهي.
وبسرعة، تطايرت الأخبار وانتشرت في الجبل، وهرعت جماعات الرهبان مسرعين إلى مغارة القديس، حتى اجتمع حوله جماعة كبيرة من الرهبان والشيوخ.
وبعد صلاة القداس، تقرّب القديس من الأسرار المقدسة، وبالرغم من ضعفه وشيخوخته كان واقفًا على قدميه ولم يجلس قط.
ودعه الرهبان وتقدم حوله أولاده الذين كان يرشدهم، وتباركوا منه، وفي تواضع طلب منهم القديس أن يباركوا هم عليه.
وودعوه بالبكاء وتباركوا منه، وبعد أن رفع القديس قلبه في صلاته الأخيرة، أمال رأسه إلى جانب المكان الذي كان ينام فيه، وأسلم روحه بيد الرب القدوس، لتصعد وسط جوقة من الملائكة وأرواح القديسين.
وللوقت، فاحت من جسده المقدس رائحة طيب زكية ملأت المكان، فقام الأخوة وكفنوه بأكفان غالية من الكتان الثمين، ودفنوا جسده الكريم بإكرام عظيم، وكان الجميع يأتون إلى مكانه. وأظهر الرب من جسده الطاهر آيات كثيرة وعظيمة.