الولادة: –
الوفاة: 338 م.
ولد في مدينة نصيبين، ومنذ نعومة أظفاره تعشق الفضيلة وبغض الأباطيل الدنيوية. وبعد أن درس العلوم الإلهية اختار سيرة الزهّاد المتوحدين، فخلع عنه ثياب العالم، واتشح بالزي الرهباني. واتخذ قمم الجبال مسكناً له صيفاً، وإحدى المغارات شتاءً. وكان قوته الجسدي حشائش البرية وأثمار الأشجار الجبلية. وكان يمشي حافياً وليس على بدنه إلا أنسجة غليظة من شعر الماعز. وأما قوته الروحي فكان الكتاب المقدس. وكانت الأيام تزده فضيلةً ونماءً وقداسةً وسناءً، فأصبح نبراساً للكمال الرهباني ومثالاً في الفضائل المسيحية.
سافر إلى بلاد فارس ليشدّد عزيمة المسيحيين بإرشاداته الصالحة، وعزّى تلك النفوس التي كانت قد تولتها الأشجان والهموم. فرد إليها حياة الثقة والسلام في ظل الاضطهادات الثائرة عليها. وأجرى الله على يده معجزات كثيرة، ورجع بواسطته كثيراً من المجوس إلى الإيمان المسيحي. وبعد عودته إلى نصيبين ذهب عند مار أوجين مؤسس الحياة الرهبانية في المشرق، فرحّب به وقال له: ” اليوم أقابلك مثل غريب، وبعد فترة أقابلك وأنت أسقف وراعي لبيعة الله “.
وتمت نبوة مار أوجين إذ بعد أيام توفي مطران نصيبين، فاجتمع كهنة المدينة وأعيانها لينتخبوا خليفةً له. فوقع بينهم الشقاق، فاجمعوا على أن يقصدوا مار أوجين فيستشيروه في الأمر، فأشار إليهم أن يذهبوا إلى رئيس أساقفة في آمد “ديار بكر “، وهو سوف يدلكم على الرجل المزمع أن يكون راعياً لكم. فانقادوا لكلامه وذهبوا إلى آمد وعرضوا الأمر على المطران والأساقفة الذين كانوا مجتمعين عنده وأطلعوهم على الأمر. فأخذ المطران والأساقفة يصلون ويبتهلون إلى الله ليلهمهم على الرجل المناسب لهذا المنصب. وبينما كان رئيس الأساقفة يصلي بدموع سخية غلب عليه النعاس، فرأى شاباً بهي المنظر واقفاً بجانبه ويقول له: ” إن الذي قال عنه مار أوجين ليكون راعياً لأبرشية نصيبين ليس إلا يعقوب الحبيس”. ودله على مكان سكناه. فدعا الوفد القادم من نصيبين وأخبرهم بما رأى.
فعادوا إلى نصيبين وكتبوا إلى مار يعقوب يدعوه للقدوم إلى المدينة، ولم يطلعوه على أمر انتخابه للأسقفية. غير أن يعقوب عرف مقاصدهم لأن مار أوجين كان قد أنبأه بذلك قبل أيام، وقرر ألا يقاوم إرادة الله. فجاء إلى نصيبين ونال السيامة الأسقفية. وكان ذلك اليوم يوم فرح وحبور لجميع أهالي نصيبين. وكان ذلك في سنة 309. وفي يوم الأحد جاء مار أوجين بصحبة بعض تلاميذه ليهنئ الأسقف الجديد، فرحب مار يعقوب به وبصحبه. فهنأ مار أوجين الشعب على راعيهم الغيور والنشيط وقال لهم: ” تهللوا يا أخوتي فرحاً وسبّحوا الرب لأنه منحكم راعياً جليلاً نبيلاً ينتمي إلى أسرة يعقوب أخي الرب الذي صار أسقفاً على أورشليم في أيام الرسل الأطهار”. وكان مار أوجين قد عرف هذا الأمر بوحي إلهي. وقام مار يعقوب بأعباء خدمته بهمة عالية، ولم يغيّر حياة التقشف التي انتهجها من قبل. وأخذ يسعف الفقراء والمحتاجين، ويخفف مصائب السقماء والبائسين. وكان ممتلئاً غيرة على حماية خرافه من الهراطقة. وقد بدد شمل المرقيونيين في نصيبين، وردّ الكثير من الوثنيين إلى الإيمان المسيحي، فازداد عدد المؤمنين يوماً بعد يوم. فرأى أن يبني كنيسة كبيرة تلبي حاجة المؤمنين. فبدأ بتشييدها سنة 313 على أنقاض معبد أصنام أنطياخوس، وأتمّها سنة 320، فجاءت أية في الجمال والهندسة المشرقية، وقد كرّسها مار يعقوب بحفلٍ مهيب.
ثم صعد إلى جبل جودي[1] إلى المكان الذي رست عليه سفينة نوح، وهناك بنى ديراً دعاه دير قيبوثا أي دير الفُلك أو السفينة. وقد كرّسه بحضور مار أوجين. ووضع فيه رهباناً. وعندما عُقد في المدائن مجمعاً لكنيسة المشرق للنظر في أمر الخلاف بين الجاثليق فافا[2] والأساقفة. كتب رسالة إلى آباء المجمع يحثّهم على التواضع والاتفاق. وقد اعتمد الآباء رأي مار يعقوب وحل السلام والمحبة في الكنيسة بفضل فطنته. ولما اجتمع أساقفة الكنائس في مدينة نيقية سنة 325 عند طلب الملك قسطنطين للنظر في هرطقة آريوس، مثل مار يعقوب النصيبيني ومعه مار يوحنا مطران فارس كنيسة المشرق في هذا المجمع. وقد أطلق عليه الأساقفة الغربيين ” فخر أساقفة الفرس وجهبذاً في الكتب المقدسة”، لما رأوا فيه من رأي سديد وحكمة وفطنة ودراية خلال أعمال المجمع.
وعندما عاد آريوس إلى القسطنطينية سنة 326 بعد أن خدع الملك قسطنطين بأنه يعترف بالإيمان الكاثوليكي، حثّ مار يعقوب المؤمنين على الصوم والصلاة ليزيل الرب الشكوك من كنيسته. وكان مار يعقوب يصلي بحرارة شديدة وبدموع سخية، فاستجاب الله دعائه. وعندما ذهب آريوس وحاشيته إلى الكنيسة، وما أن دخل عتبة الكنيسة حتى فاجأه وجع شديد في أمعائه، ومات أقبح ميتة.
وقد مثل أيضاً كنيسة المشرق في حفل تكريس كنيسة القيامة في أورشليم التي شيّدها الملك قسطنطين. وبعد عودته من المجمع افتتح في نصيبين مدرسة، وأقام تلميذه مار أفرام النصيبيني معلماً فيها. فقام بأعباء مهمته بجد ونشاط وهمة قعساء. ونالت بفضله شهرة واسعة. حتى اعتُبرت أول جامعة لاهوتية في العالم.
وفي سنة 338 أغار شابور ملك الفرس على نصيبين التي كانت بحوزة الروم، وقد حاصرها سبعين يوماً لكنه لم يتمكن من دخولها. وعندها أمر بسد النهر الذي يمر بالمدينة حتى يرتفع الماء، ومن ثم فجّر السد فصدمت المياه سور المدينة فهدمت جزء منه. فتقدم شابور وجيشه لدخول المدينة وعندما وصل إلى الموقع المتهدم من السور، انتابه العجب عندما رأى ما تهدم قد شيد من جديد. لأن مار يعقوب كان قد أوعز إلى أهالي المدينة ليجددوا ما تهدم في تلك الليلة. وكان مار يعقوب داخل الكنيسة يصلي ليبارك الله الشعب في جهادهم ضد الفرس.
وبينما كان شابور يحاصر المدينة رأى فوق السور رجلاً متقمصاً بحللٍ ملكية وعلى رأسه تاج، فظن أنه الملك قسطنطيوس[3]. وعندما عرف أن ملك الروم موجود في أنطاكية غضب، فأخذ سهماً ورشق به الفضاء قاصداً أن يرمي به إله المسيحيين. فطلب مار أفرام النصيبيني من معلمه مار يعقوب أن يرشق شابور وجيشه بسهام اللعنة. فصعد مار يعقوب إلى أحد أبراج السور وصلى والتمس من الله أن يكسر هذا الجيش بعسكر من البعوض. وللحال امتلأ الجو من البعوض فهاجت الدواب والخيول والفيلة، فاضطرب الجيش وفزع شابور فولى هارباً من أمام عجائب الإله الجبار. وهكذا نجت المدينة بصلوات مار يعقوب.
وبعد انتهاء الحصار سنة 338 توفي مار يعقوب النصيبيني، بعد أن خدم أبرشيته بهمة عالية. ودفن في الكاتدرائية التي شيدها. وقد وصفه تلميذه مار أفرام بميامره المعروفة بالنصيبينية “بالغيرة والحزم”. وقد جاد الله عليه بأنوار سماوية، وموهبة واجتراح العجائب. فقد أنزل الله العقاب بآريوس الملحد بصلواته. وبشفاعته خلص الله نصيبين مرتين من هجمات الفرس. وقد وضع مار يعقوب العديد من المقالات في العبادة والتقوى. وبعد سقوط نصيبين بيد الفرس سنة 363 هجر أغلب المسيحيين المدينة، ومنهم مار أفرام ومعلمي وتلاميذ المدرسة، وتوجهوا إلى مدينة الرها. ويقال أنهم حملوا معهم ذخائر مار يعقوب النصيبيني. وبعد مدة من الزمن نقلت إلى مدينة القسطنطينية لتستقر هناك.[4]
وحتى يومنا هذا يجد المرء ناووس حجري ضمن سرداب في الكنيسة كان يضم ذخائر هذا القديس العظيم. ومن المعلوم أن هذه الكنيسة قوض نصفها بسبب عوادي الزمان، وبقي نصفها الآخر. وكانت ملكية الكنيسة للمشارقة منذ البدايات، وقد ضبطها السريان الأرثوذكس من الكلدان سنة 1865 بقوة الحكام، بعد أن دفعوا مبلغ كبيراً من الذهب لحاكم ديار بكر.[5]
وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار يعقوب النصيبيني في الجمعة الأولى من سابوع القيظ “الصيف”.
——————————————————————————–
1_ جبل جودي: هو جبل مطل على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل. عليه استوت سفينة نوح لما نضب ماء الطوفان. معجم البلدان ياقوت الحموي ج 2 ص 179. جبال في إقليم البوتان على بعد نحو 40 كم شمال شرقي جزيرة ابن عمر. قيل أن سفينة نوح حطت عليها بعد الطوفان. المنجد في الأعلام ص 221.
2_ الجاثليق فافا ( 310 _ 327 ): أقيم سنة 310 خلفاً للجاثليق شحلوفا الذي توفي سنة 240 وبقي الكرسي شاغراً بعد موته. أراد فافا أن يوحد كنيسة المشرق تحت زعامة كرسي ساليق، ولكنه لقي معارضة عنيفة من الأساقفة. وقد عقد الأساقفة مجمعاً فيه قرروا إعفاؤه من منصبه. لكنه لم يرضخ لهم،وتدخل الآباء الغربيين لصالحه عندما قالوا: ” إدانته تعود فقط إلى المسيح الذي اختاره “. وبقي في كرسيه حتى وفاته سنة 327. تاريخ الكنيسة الشرقية الأب ألبير أبونا ج 1 ص 29 _ 31.
3_ قسطنطيوس ( 317 _ 361 ): إمبراطور روماني سنة 337. وهو ابن قسطنطين الكبير. حكم أولاً في الشرق ثم وحد الإمبراطورية بعد موت أخيه قسطنس سنة 350. مال إلى بدعة الآريوسيين وأرسل منهم وفداً إلى جنوبي الجزيرة العربية، حيث أنشأ كنائس في عدن وفي أرض حمير سنة 356. المنجد في الأعلام ص 551.
4_ سيرة أشهر شهداء المشرق القديسين المطران أدي شير ج 2 ص 1 _ 10.
5_ تاريخ كلدو وأثور المطران أدي شير ج 2 ص 42.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت