الولادة: 251م.
الوفاة: 356م.
وُلد أنطونيوس سنة 251 م، في مدينة كومان (كوم العروس اليوم) بمحافظة بنى سويف في مصر العليا القريبة من الصعيد، من والدين مسيحيين تقيين من أشراف البلد وأغنيائها. قبطي لم يتعلّم انطونيوس لا القراءة ولا الكتابة. ولكنّ الله قد حباه بذكاء طبيعيّ؛ فكان يحفظ عن ظهر القلب كل ما كان يتلى عليه من نصوص الكتب المقدّسة وحياة الآباء القديسين وأخبار النسّاك وتدرّب منذ حداثته على ممارسة أعمال التقوى واكتساب الفضائل، غير مكترث بالتنعم ورخاء العيش.
وبينما كان يوماًَ في الكنيسة لحضور القداس الإلهي، عند تلاوة الإنجيل سمع ما قاله يسوع لذلك الشاب الغني: “إذا شئت أن تكون كاملاً، فاذهب وبع ما تملكه وأعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السماء وتعال فاتبعني”… فأثّر فيه هذا الكلام وأخذ يتأمله ملياً كأنه موجه إليه خصوصاً. فحركت نعمة الله قلبه وعلّل النفس بترك العالم والإقتداء بالمسيح الفقير وبمن سبقوه إلى البريّة. في هذه الفترة المقلقة والمصيرية من حياته توفى والديه. فعزم نهائياً على ترك العالم الزائل وله من العمر ثمانية عشر سنة. مخلفاً وراءه أختاً وحيدة وثروة طائلة. فأعطى أخته حصتها من الميراث الوالدي وفوّض تربية شقيقته إلى أسرة اشتهرت بتقوى أفرادها وورعهم، وفرّق كل ما تبقّى له على المساكين، كما قال السيد المسيح في الإنجيل، وذهب إلى الدير لا يملك شيئاً، متكلاً على العناية الإلهية وحدها. وذهب إلى البريّة. وكان عالماً بوجود النساك هناك، فراح يفكر بأب روحي خبير في أمور الروح ومرشد عالما بتدريب النفوس.
لذلك كلما كان يعلم بوجود ناسك هنا أو هناك، يذهب إليه للتعرف عليه والإقتداء بفضائله والاستفادة من إرشاداته. وأخذ يماثلهم وينافسهم في الصلاة والتقشفات الشاقة والأصوام والأسهار الطويلة، وسعى الشيطان لمحاربة انطونيوس إذ لم يحتمل أن يرى شاباً حديث السن أن يمارس الفضائل، فاخذ يبيّن له أنه أخطأ في تصرفاته فبدلاً من أن يبقى في العزلة والانفراد ويعمل حصراً كان من الأصوب أن يحتفظ بما انعم الله عليه، إلا أن قلب انطونيوس كان دائماً بابه مغلقاً دون الشهوات الأرضية والأميال إلى الملذات واتخذ من الأسلحة أنجحها وهى الصلاة والصوم والتيقظ الكلي وثبت في الجهاد.
دُعيَ القديس انطونيوس أول النساك وأبا الرهبان لكن هذا لا يعني ويجب أن لا يُفهم انه لم يكن من نساك قبله. فقد حقق العلماء المؤرخون أن الحياة النسكية كانت قبل المسيح وبعده، وان مصر كانت مهد الحياة النسكية بإجماع المؤرخين قبل انطونيوس وبعده. ولاحظ انطونيوس كثرة القادمين إليه من معجبين ومن أصدقاء، وكثر احترامهم ومديحهم، فخشي أن يستغل الشيطان هذه الظروف ليوقعه في خطيئة الكبرياء، فعزم على الهرب من وجه الناس. فترك المكان الذي كان يسكنه واعتزل القبور البعيدة عن القرية وسكن هناك في قبر مهجور، فاغتاظ الشيطان وخشي أن تمتلئ البرية بأناس يقتدون به، فأتى إليه أثناء الليل مع زمرة من رفقائه وضربه ضرباً مؤلماً، حتى تركه طريحاً على الأرض مضرجاً في دمائه لا يقوى على الكلام. ووصف انطونيوس هذه الآلام بأنها اشد من الم كل عذاب في هذه الدنيا. ودهش الشيطان من شجاعة انطونيوس رغم ما قاسى من آلام، ففكر في محاربته بطريقة أخرى، فاحضر جند من الشياطين وانقضوا عليه متخذين هيئة وحوش ضارية وحيات وعقارب. فبادرهم انطونيوس بقوله ” انه قد ظهر ضعفكم بوضوح إذ جئتم إليّ عسكراً، أليس فيكم من يقدر وحده على منازلة إنسان. حاربوني بكل قوتكم وان قدرتم فابتلعوني، أتجهلون علامة الصليب والإيمان الذي بي بيسوع المسيح هما كترس يرد كل هجماتكم و مكايدكم؟! بعدها أضاء نور سماوي في القبر الذي يسكنه، فتمزق العسكر الجهنمي وتوارت الشياطين وشعر انطونيوس بشفاء كل جروحه. وحينئذ رفع عينيه إلى السماء وقال: أين أنت يا يسوع ولماذا لم تأت قبلاً لتقويني في الحرب؟ فأجابه السيد المسيح وقال له:” أني كنت هنا يا انطونيوس وقد حضرت الحرب وسمحت بأنك تجرح وأني مزمع أن أعضدك دائماً وأُشهر اسمك في كل الأرض. وشعر انطونيوس انه أصبح أكثر قوة من ذي قبل وكان له من العمر حينئذ خمسة و ثلاثون سنة.
توغل انطونيوس في البرية وعبر النيل وذهب إلى قلعة ودخلها بعد أن رسم علامة الصليب، فخرج منها حيوانات ضارية وزحافات وأسرعت إلى الهرب، وسكن انطونيوس داخل أسوار القلعة وبقي على هذه الحال أكثر من عشرين سنة، ولم يخرج قط خارج سور القلعة بينما الناس حينما عرفوا مقره فكانوا يأتون إليه، فخرج إليهم وكان يجيب على أسئلتهم، وكان الكثيرون يلحّون عليه طالبين العيش بجواره ليرعاهم ويرشدهم ويعلمهم، وحينئذ خرج انطونيوس من القلعة كما يخرج من مقدس. وكان الله مع انطونيوس ومنحه موهبة إدراك أفكار سامعيه، فكان يرشد كل واحد حسب احتياجه ومنذ هذا الحين منحه الله موهبة صنع العجائب.
سافر انطونيوس إلى الإسكندرية، وقت اضطهاد الإمبراطور مكسيمانوس للمسيحيين. وكان يعذبهم بوحشية وحينما عرف أن انطونيوس بالإسكندرية، أصدر نشرة بمنع انطونيوس وتلاميذه من حضور المحاكمات وعلى الرغم من ذلك كان انطونيوس يذهب إلى المحكمة حتى يتمكن الحاكم الظالم من رؤيته. وقد أعجب الناس من ذلك وكان الحاكم يتعجب من ثباته ورباطة جأشه، وكان انطونيوس يشتهي من كل قلبه أن ينال إكليل الاستشهاد وكان حزيناً جداً لأنه لم ينل هذه النعمة.
وكان انطونيوس يختطف بالروح وكشف الله له المستقبل، وقد سر كثيراً انطونيوس عندما علم أن شقيقته الوحيدة، التي تركها قد اعتنقت الحياة النسكية، وكرّست حياتها لله مع رفيقات لها من بلدها في مكان اخترنه ليمارسن فيه أفعال التقشفات والفضائل، فتوجّه لزيارتها وتشجيعها على السير بثبات في الحياة النسكية.
ولم يتركه الشيطان بل هاجمه مع عدد كبير من الشياطين ووثبوا عليه وجرحوا كل جسده بأنيابهم ومخالبهم بينما هو لم يضطرب وكان يحدّثهم باستهزاء مكرراً كلام داوود النبي: “لو اصطف على عسكر فلا يخاف قلبي”. وما أن أنهى انطونيوس كلامه حتى ظهر له السيد المسيح وقال له: ” أنا لم أتخل عنك لحظة فأني كنت ساكناً في قلبك، وقد حضرت الحرب التي أشعلها الشياطين ضدك، واني سمحت بذلك لاني أشفيك وثق أني لا أتركك وستكون قدوة للرهبان وأباً ومرشداً ومعلماً وقائداً، وان ذكرك لا يمحى من البرية إلى الأبد، وستمتلئ البراري من تلاميذ قبل مفارقتك هذا العالم، ثم قال له يسوع:” تقو يا انطونيوس، من الآن تدعى ” كوكب البرية “، وألبسه حينئذ الرب يسوع الاسكيم الملائكي بيده القديرة وقال له : “اقبل يا انطونيوس تاج النعمة وإكليل المجد من يدي، تقو فانك بهذا التاج تغلب جموع الأعداء وتهزم الشيطان وتبطل أعماله”.
فكر القديس انطونيوس بالهام إلهي أن يفتش متوغلاً في البريّة عن ناسك يفوقه فضلاً وفضيلة يسترشده. وبعد مسيرة يومين لاحظ أثار إقدام بشرية توصل إلى كهف فتتبعها. ولما دنا من الكهف تيقن انه مسكن ناسك. فقرع بابه وسأل الناسك أن يفتح له، وبعد تردد وجدال طويل فتح الناسك الباب، فإذ به وجد شيخاً جليلاً مهيباً قديم الأيام، يطفح وجهه بالنور الإلهي والحبور، هو القديس بولا أول السائحين.
وُلدَ بولا في مدينة طيبة في الصعيد الأسفل سنة 229. وكان والداه تقيين غنيين، قد توفيا وله من العمر خمس عشرة سنة.
درس مبادئ الدين والأخلاق على يد والديه وتعلم القراءة والكتابة في مدرسة بلدته الطيبة. فصار عالماً بآداب اللغتين اليونانية والمصرية، وغنياً بفضائل التقوى المسيحية والوداعة والحشمة وخوف الله التي أخذها عن والديه. ولما أثار داسيوس الملك سنة 249 اضطهاداً شديداً على المسيحيين، وعلم بولا أن صهره زوج شقيقته يريد أن يسلمّه ليستولي على ثروته، شق عليه ذلك وكره الدنيا. فتركها وهرب إلى البريّة سنة 250 وله من العمر عشرون سنة. وسكن مغارة بقربها عين ماء يشرب منها، ونخلة يستظل بظلها ويقتات من أثمارها ويكتسي من أوراقها. وقضى ثلاثاً وعشرون سنة يأكل من أثمار النخلة، عائشاً بالصلاة والتأمل والتقشفات الشاقة، مستغرقاً بالله، إلى أن صار الله يرسل له كل يوم بنصف رغيف بفم غراب كما كان يفعل مع إيليا النبي.
ولما زاره انطونيوس ابتسم كل للآخر وتبادلا السلام. ولم يكن بينهما سابق معرفة. وبعد أن تعارفا وتحدثا طويلاً، مجّدا الله سوية وصليا. وفي النهاية، وقد حان وقت الطعام، الوجبة الوحيدة في اليوم، جاء الغراب هذه المرة وفي فمه رغيف كامل.
وعندما توفي القديس بولا، كفّن انطونيوس جسده برداء القديس اثناسيوس وأخرجه من المغارة، ولم يجد آلات ليحفر بها القبر فتدخلت العناية الإلهية، فإذ بأسدين يقتربان وكأنهما يشاركانه في مصابه وأخذا يحفران الأرض بمخالبهما حفرة كافية لدفن القديس الأنبا بولا. ولما انتهيا من الحفر دفنه القديس انطونيوس ووراه التراب وصلى طويلاً وصرف الأسدين، وقلبه كان مفعم حزناً، عازماً على اقتفاء أثاره والاقتداء بمثله وكانت وفاة القديس الأنبا بولا سنة 342 م وقد بلغ من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، قضى منها في البرية نحو تسعين سنة.
لم يترك انطونيوس العالم ليتنسك في البرية بغضاً بالعالم وكرهاً، بل محبة بالله وبالعالم. شاع خبر قداسته في بلاد الصعيد وكل مصر، فتقاطرت الناس إلى مغارته من كل حدب وصوب لمشاهدته وطلب بركته والاستفادة من إرشاداته الروحيّة.
كانت حياته اكبر موعظة وانفع دعاية لاكتساب الدعوات، وأعمق تأثيراً في نفوس وحياة الناس؛ فتجمّع حوله عدد لا يستهان من المؤمنين يسترشدونه. فتتلمذ له عدد من هؤلاء؛ حتى امتلأت البريّة بالنساك وعمرت بالصوامع. لذلك فالقديس انطونيوس يدعى بكل حق منشيء الحياة الرهبانية الجماعية وأول واضعي القوانين الرهبانية.
القديس انطونيوس وهرطقة اريوس:
قد عبر انطونيوس عن حزنه بسبب هذه الهرطقة قائلاً لتلاميذه: “يا أولادي أنى أفضل الموت على حدوث ما علمت به الآن”، وعزم على السفر إلى الإسكندرية ليخاطب الشعب ويكشف له خداع الاريوسيين و يبين له حقيقة إيمانه. وقد خبر الشعب خبر قدومه فخرج لملاقاته مبرهنين له بذلك على احترامهم له وخاطب انطونيوس الشعب، وقد لاحظ القديس اثناسيوس في كتابه عن سيرة القديس انطونيوس، انه اهتدى من الوثنيين في الأيام القليلة التي قضاها بالإسكندرية عدداً أكثر مما اهتدى منهم في سنة كاملة، ولما أزفّ وقت سفر انطونيوس حزن المؤمنون حزناً شديداً وتوسلوا إليه أن يبقى معهم زماناً أطول خدمة للإيمان القويم، إلا أن انطونيوس كان يجيبهم : “كما أن الشمع يذوب إذا اقترب من النار، هكذا فضيلة الناسك تضمحل بعيداً عن الخلوة”. وتوارى القديس انطونيوس بتواضع عن أبصار الشعب الذي كان يدعو ويهلل، وعاد مسرورا إلى خلوته كمن عاد إلى بيته الحقيقي.
القديس انطونيوس تنبأ لتلاميذه عن موته:
أوحى إليه إله المراحم بدنو اجله، فعزم حينئذ القديس انطونيوس على زيارة تلاميذه ليحرضهم للمرة الأخيرة على إتمام واجباتهم بتدقيق وليحذرهم من التراخي والتواني، فلما وصل إلى مكان تجمع تلاميذه اخبرهم انه سوف لا يراهم بعد إلا في عالم أسمى وأبهى وقال لهم: “هذه يا اولادى زيارتي الأخيرة ولا أظن أنى أراكم بعد في هذه الدنيا، وقد حان لهذه النفس أن تفارق هذا الجسد، لاني بلغت المائة والخامسة من عمري”. وأراد التلاميذ أن يحملوا القديس على البقاء معهم حتى ساعة موته، وألحوا عليه، واستعملوا كل الوسائط لإقناعه، لكن القديس رفض طلبهم. وعجّل بالرجوع إلى صومعته بعد أن استأذن النساك بالانصراف.
وتابع يقول: “يا أولادي، أني مغادركم. غير أني لا انفك عن محبتكم. مارسوا دائماً أعمالكم المقدسة ولا تتراخوا قط. احرصوا كل الحرص إلا تدنس أنفسكم شوائب الأفكار. اجعلوا الموت نصب أعينكم واجعلوا قيد أبصاركم حياة القديسين واقتدوا بهم.”…
كان انطونيوس يخشى أن يحفظ جسده بعد موته ويداوم الناس المؤمنين على إكرام بقايا ذلك الذي اشتهر بكثرة عجائبه، وذلك خوفاً من أن يؤدوا لجسده هذا الإكرام الذي شاهد النساك تؤديه لغيره، أراد أن يدفن في مكان مجهول. وبعد أن وصل إلى صومعته اعتراه مرض فقدم لله حياته وسأله بكل اتضاع أن يغفر له خطاياه ودعا إليه تلميذيه مكاريوس وأماتاس و قال لهما: “أني أرى يا ولدي أن الله يدعوني إليه … تذكرا التعاليم التي ارشدتكما بها وان شئتما أن تبرهنا عن محبتكما وان تتذكراني كأبيكما، فلا تسمحان أن ينقل جسدي إلى مصر المدينة، خوفاً من أن يحفظوه في بيوتهم وهذا هو السبب الذي حملني إلى الفرار لأموت فوق هذا الجبل. فادفناني إذن تحت الأرض ولا تعرفا أحدا عن موضع قبري، إما ثيابي فوزعاها كما يلي: أعطيا للأسقف اثناسيوس احد جلود الغنم، وأعطيا للأسقف سرابيون جلد الغنم الآخر واحفظا مسحي. استودعكما الله يا ولدي العزيزين أن انطونيوس يغادركما غير مختلف عنكما”. وبعد أن قال ذلك تقدم مكاريوس واماتاس وعانقاه فبسط رجليه ورقد بالرب، وكان منظره بهياً وإمارات الفرح السماوي بادية على محياه كأنه رأى احد من أصدقائه آتياً لملاقاته.
كانت وفاته سنة 356 م في السابع عشر من شهر يناير وكان قد بلغ القديس انطونيوس من العمر مائه وخمس سنوات.
لقد انعم الله على القديس انطونيوس بحياة طويلة، قضاها مع الله بالجهاد العنيد والتهجد المستمر والحب المستميت. هكذا كانت حياته في هذه الدنيا بداية حياة رهبانية جماعية اتُخذت مثالاً شرقا وغرباً، وبداية سعادة أبدية خالدة في السماء.
كتب هذه السيرة (المتنيح) نيافة الأنبا يوحنا كابس أسقف كليوباطريس والمساعد البطريركى للأقباط الكاثوليك (سنة 1958)، والذي انتقل إلى الأمجاد السماوية في 27 يونيو 1985، نقلاً عن كتابات الآباء بولاندوس وبارثينوس وباليه ودون سيليه وغيرهم… ويقول نيافته في مستهل كتابه: ” نسال الله أن يمنح كل من يقرأ هذه السيرة نوراً و إيماناً وقوة وشجاعة وثباتاً لممارسة الفضائل المسيحية، والتدرج في الكمال والقداسة بشفاعة القديس انطونيوس كوكب البرية، بركاته تحل علينا. آمين
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت