الدولة | لبنان |
---|---|
المحافظة – المدينة | الشمال |
الطائفة | موارنة |
الموقع على الخريطة | ![]() |
🕍 كنيسة سيّدة القلعة: تحفة الفنّ والإيمان
كنيسةُ سيّدةِ القلعة، تُحفَةٌ من الفنّ، تتجلّى بثلاثةِ عقودٍ وأعمدةٍ مزدوجةٍ وأقواسٍ سريريّةٍ وجدرانٍ مزخرفةٍ على الطرازِ اليونانيّ الكلاسيكيّ. شهدت حقباتٍ من الازدهارِ وفتراتٍ أخرى من الحرمان، وتنتظر اليوم أن تَمتدَّ إليها يدٌ كريمةٌ لتُعيدَ إذكاءَ جذوةِ الحياةِ فيها مرّةً أخرى. فهل ما يمنعُ من تأهيلِ القلعةِ الصليبيّة لتكونَ قِبلةً لعشّاقِ الآثارِ والتاريخ؟!
📍 الموقع
تقع كنيسةُ سيّدةِ القلعة في منتصفِ الطريقِ الإستراتيجيّة القديمةِ التي تَربط بين فينيقيا الساحليّةِ والدّاخلِ السوريّ، والتي كانت طريقَ القوافلِ والجيوشِ الغازيةِ وهجراتِ الشعوب. من هنا تَكمُن أهميّةُ الموقعِ الإستراتيجيّة حيث بُنِيَتِ القلعةُ منذ زمنٍ موغلٍ في القِدم. والدليلُ على ذلك القبورُ الميغاليتيّة المنتشرةُ بكثافةٍ على ضفّتَيِ النهر، وهي من نوعِ “دولمام” (Dolmen)، وتعود إلى ثلاثةِ آلافِ عامٍ قبلَ الميلاد. كذلك يُوجَد في المكان حجرٌ أسودُ مَكتوبٌ عليه اسمُ إلهِ الحظّ اليونانيّ (Fortuna).
وعندما جاء الصليبيّون إلى الشرق، أدرَكوا أهميّةَ الموقع، فبَنَوا أو حَصَّنوا القلعة التي اشتهرت بعد ذلك باسم “فليس”، تعريب لفظة “فاليكس” (Felix) اللاتينيّة، أي السعيد. وقد أَنشأ “الفرسانُ المضيّفون” (Hospitaliers) في قلبِ القلعة، كعادتِهم، كنيسةً على اسمِ شفيعِهم مار يوحنّا، لا تزال آثارُها ماثلةً للعيان. لكن سبق أن كان قربَ القلعةِ كنيسةٌ أخرى، أقدمُ بكثير، على اسمِ السيّدة، بُنِيَت الكنيسةُ الجديدةُ مكانَها، فَسُمِّيَت “سيّدة القلعة”.
🏰 طبيعة المكان
تقوم كنيسةُ سيّدةِ القلعة (Notre Dame du Fort) اليوم على شريطٍ أو لسانٍ من الأرضِ البازلتيّةِ يَقطعُه خندقٌ اصطناعيّ يفصلُ القلعةَ عن الكنيسةِ وتوابعِها. كان يقومُ فوقَه جسرٌ خشبيٌّ مُتحرّك (Pont-Levis) يُرفَعُ عند الحروبِ ويُعادُ أيّامَ السِّلم. ويُزنِّرُ هذا اللسانَ من الأرضِ من الجهةِ الشماليّةِ وادي نهرِ الكبيرِ الشماليّ قديمًا (Eleuterius)، حيث تتلوّى بكسلٍ ناعسٍ مياهٌ زرقاءُ تعكسُ أشعّةَ الشّمسِ الساطعة، فتلتَهِب أزهارُ الدِّفلى المائلةُ على الضفّتين، وتتوهّجُ بالألوانِ أشجارُ اللوزِ في الحُلولِ المعلّقة، وتَرقصُ بالظِّلالِ أحراجُ القلعةِ المتدلّيةُ فوقَ النهرِ من شاهقٍ، فيبدو للناظرِ مشهدًا خلّابًا ليس أجملَ منه ولا أبهى!
وإلى الجهةِ الجنوبيّةِ الغربيّةِ، يَنحدرُ وادي منجز بخانقٍ نهريٍّ يلفُّ الموقعَ ويلتقي عند طرفِ اللسانِ غربًا بالنهرِ الكبيرِ الشماليّ.
🎨 روعة الفنّ
في ذلك الموقعِ الرائعِ المنعزل، يُشاهَدُ بناءٌ مرتفعٌ، أبيضُ اللونِ، تُزنِّرُه خطوطٌ من حجارةٍ سوداء، ويُغطّيه القرميدُ الأحمر، بينما يَشمخُ بعُرفٍ قانٍ فوق الجرسِ الدِّيكُ المعدنيّ الفرنسيّ (Girouette)، يَكادُ يَصيحُ في كلّ وقتٍ مُعلِنًا اتجاهَ الريح. وإلى جانبِه الشاري، أي لاقطةُ الصواعقِ (Paratonnerre)، ممّا يُضفي على المكانِ أُنسًا وبهجةً وأمانًا.
وإلى جانبِ الكنيسةِ، جنوبًا، يقومُ بناءٌ واسعٌ من طبقتَين يضمُّ غرفَ المدرسة، بينما تُشكِّلُ غرفُ الرهبان امتدادَ الكنيسة، في معظمِها مأخوذةٌ من بقايا القلعة.
🕋 جمال الداخل والزخارف
أمّا روعةُ الفنّ فتتجلّى داخلَ الكنيسة: السقفُ مُؤلَّفٌ من ثلاثةِ عقودٍ يُشكِّلُ كلٌّ منها حنيةً مُصلَّبةً، تَحمِلُها أقواسٌ مرتفعةٌ تقومُ على أعمدةٍ مزدوجةٍ. ومن أواسطِ تيجانِ الأعمدةِ المزدوجةِ تَبرزُ الأقواسُ السّريِّيةُ التي تَحمِلُ العقودَ المُصلَّبةَ وتفصلُ بينها.
هذه الأقواسُ السّريِّيةُ مُقطَّعةٌ بالألوان، يَتَناوبُ فيها الأبيضُ والقاتمُ. والأعمدةُ المزدوجةُ حجريّةٌ اسطوانيّةٌ مُجصَّصة، ومحمولةٌ بدورِها على أعمدةٍ مثلَها من غيرِ تيجانٍ، تَنزلُ حتى زيحِ الحائطِ حيثُ تَرتكزُ على قواعدِها الحجريّةِ المستطيلة.
والأعمدةُ هذه مدهونةٌ باللونِ البنّيّ المُموَّج، أمّا تيجانُها فتتكوّنُ من زخرفةٍ بيضاءَ على شكلِ زهرةِ النِّيلوفر الجميلة، وتَمتدُّ منها أطنافٌ حجريّةٌ تُزنِّرُ الجدرانَ مزخرفةً على الطرازِ اليونانيّ الكلاسيكيّ.
وأمّا أقواسُ الحنايا المُصلَّبةُ لجهةِ الحائطِ فهي سريِّيةُ الشكل، تَحمِلُها أعمدةٌ أنيقةٌ صغيرةٌ مفردةٌ مُجصَّصةٌ مدهونةٌ باللونِ الأخضرِ القاتمِ المُموَّج، وتلتصقُ بالحائطِ تيجانُها كورنيشةً، وقواعدُها محمولةٌ على أطرافِ تيجانِ الأعمدةِ المزدوجةِ.
وبين الأعمدةِ المزدوجةِ تَنفتحُ نوافذُ مزدوجةٌ بأقواسٍ سريِّيةٍ قائمةٍ على أعمدةٍ مفردةٍ قصيرةٍ أنيقةٍ كورنيشةِ التيجان.
هذا الطرازُ الرومانيّ يَغتني بالزخارفِ الكثيرةِ والألوانِ المزركشةِ والمشاهدِ المنوّعةِ التي يَتطعّمُ بها، والتي تُشكِّلُ ملامحَ الفنّ الباروكيّ (Baroque)، الحبيبَ إلى قلبِ الآباءِ اليسوعيّين، بناةِ المقامِ، الذين تَربطُهم بهذا الفنّ وشائجُ تاريخيّة. ولا نَدري أَتِلكَ الوشائجُ هي التي أَوحَت اعتمادَ هذا الأسلوبِ في ذلك المكانِ المنعزل، أم أنّ روعةَ الموقعِ وغنى الطبيعةِ فيه أَوحياهُ إلى الأخِ اليسوعيِّ تيودور مهندسِ الكنيسة.
🌈 زخارف النوافذ والمذابح
وهكذا تَوَزَّعتِ اللوحاتُ الفنيّةُ على الجدران، وحتى الزيح، تُزنِّرُه الخطوطُ الطويلةُ برسومٍ هندسيّةٍ مُتناغمةِ الألوان.
وأمّا روعةُ الفنّ فتَبلُغُ الأوجَ في رسومِ زجاجِ الشبابيكِ الملوَّنةِ التي تُشكِّلُ لوحاتٍ طبيعيّةً ورموزًا دينيّةً وأشكالًا هندسيّةً. وتسودُ زهرةُ السوسن كأميرةٍ بين تلك الرسوم، وهي شعارُ الملكيّةِ الفرنسيّة.
المذبحُ الرّئيسيّ خشبيٌّ مُزخرفٌ بسخاءٍ، غنيُّ الألوانِ، مُذهَّبٌ بشكلٍ أساسيّ، والمذبحانِ الجانبيّانِ من المرمرِ الأبيضِ بواجهةٍ من قناطرَ مثلّثةٍ تقومُ على أعمدةٍ دقيقةٍ كورنيشةِ الطراز.
لكن ما يُؤسَفُ له جدًّا أنّ مياهَ الأمطارِ تَسرَّبَت بغزارةٍ من الحائطِ الجنوبيّ، وأُتلِفَت رسومُه وألوانُه، وهو يحتاجُ إلى صيانةٍ مُلحّةٍ.