الدولة | سوريا |
---|---|
المحافظة – المدينة | حلب |
الطائفة | – |
الموقع على الخريطة | ![]() |
📜 تاريخ بناء كنيسة القديس سمعان
أصبح زينون إمبراطورًا في 474 م. وبعد أن قضى على ثورة مغتصب العرش بازليك في العام 476 م، أَضْحَت علاقات العمودي دانيال قوية مع الإمبراطور زينون الذي أراد أن يشد الولايات الشرقية إلى المملكة، ففكر ببناء كنيسة عظيمة على شرف قديس شرقي ذي شعبية في كل الإمبراطورية. لذلك يمكن أن ننسب إلى الإمبراطور زينون بداية العمل في بناء كنيسة القديس سمعان العمودي في العام 476 م.
أما بالنسبة إلى تاريخ انتهاء بناء الكنيسة، فتحدده المعطيات الآثارية. إذ نجد إلى الشمال الشرقي من مكان العمود، وعلى بعد حوالي 5 كم، قرية باصوفان وفيها كنيسة مكرسة للقديس فوقاس وهي نسخة جزئية مصغرة من كنيسة سمعان، يزين حنيتها من الخارج صفان من الأعمدة مثل حنية كنيسة القديس سمعان، وكذلك طريقة الزخرفة هي نفسها. كما أن الأعمدة وتيجانها في البهو الرئيسي لا تشبه مثيلاتها في كنيسة سمعان فحسب بل نُفذت بنفس أدوات العمل مما يؤكد ليس فقط تماثل العناصر المعمارية في الكنيسة بل التنفيذ من قبل نفس العاملين. أن كنيسة باصوفان تحوي كتابة سريانية تُبَيِّن بدء بنائها في العام 491 م أي أن بناء هذه الكنيسة تم بعد إنجاز كنيسة القديس سمعان. ويرى الباحث الأثري تشالنكو أن كنيسة القديس سمعان قد انتهى بناؤها في العام 490 م، ولا شك أن الأعمال كانت تُوجَّه من قبل إدارة الإمبراطور بالذات ليُتَم البناء الضخم خلال هذه الفترة القصيرة، وهي 15 عامًا، والتي جُنِّد لها العمال الاختصاصيون من جميع الولايات الشرقية، بالإضافة إلى الأيدي العاملة المحلية بحيث كان آلاف العمال يعملون في البناء تحت إشراف الدولة.
🙏 حياة القديس سمعان العمودي
وُلد سمعان حوالي العام 386 م في بلدة سيس القريبة من بيقوبوليس (قرب أضنة، تركيا حاليًا) وقد أخذ عن والديه الريفيين الميسورين رعاية المواشي وهو فتى صغير. وفي يوم قارس البرد وكثير الثلج، لزم القطيع فيه الحظيرة، ذهب مع والديه إلى الكنيسة حيث استمع إلى الكاهن يردد التطويبات التي أطلقها الفادي عظة الجبل:
طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض
طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون
طوبى للمحزونين فإنهم يُعَزَّون
طوبى للرحماء فإنهم يرحمون
طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يُعَايِنون الله
طوبى للساعين إلى السلام فإنهم أبناء الله يدعون …
اجتذبت كلمات المعلم الإلهي فتانا سمعان وتاقت نفسه إلى الصفاء الروحي ومال إلى الحياة النسكية فانضم إلى جماعة من النساك قرب سيس، فبقي معهم مدة سنتين لكن نفسه تاقت بعدها إلى حياة أكمل، فانتقل إلى منطقة دير تلعادة الكبير جنوب سفح جبل الشيخ بركات ولجأ إلى دير برج السبع القريب إلى الغرب الذي كان أسسه أوسيبوناس وحبيبيون تلميذا مار سابا العظيم وكان يرأسه هليدوروس ويضم ثمانين راهبًا. أمضى القديس سمعان في هذا الدير عشر سنوات قضاها في الصلاة والتقشف. كان يتناول الطعام مرة واحدة في الأسبوع، وشَدَّ مرة حبلاً خشناً على جسده للإمعان في التقشف، فأدى إلى نزف دمه ولم يقبل بمعالجة الجرح فطُلِب منه مغادرة الدير كي لا يتسبب خراب من كانت بنيته ضعيفة من الرهبان في حال مجاراته عمله.
في العام 412 م لجأ سمعان إلى بلدة تلانيسوس (قرية دير سمعان حاليًا) الواقعة على السفح الجنوبي الغربي للجبل الذي أقام فيه فيما بعد بقية حياته، فعاش في هذه البلدة ثلاث سنوات في مجتمع رهباني صغير أسسه مارس بن برعطون.
أقام سمعان في صومعة وصام الصوم الأربعيني دون أن يأكل أو يشرب شيئًا رغم وجود عشرة أرغفة من الخبز وجرة ماء قربه، وقد أصبح صوم الأربعين دون أكل أو شرب عادة لدى القديس سمعان رافقته حتى آخر حياته على العمود.
غادر القديس سمعان تلانيسوس وارتقى قمة الجبل المجاور حيث أقام ضمن سياج صغير على شكل دائرة في أرض تعود إلى الأب داوود من تلانيسوس وربط نفسه بسلسلة طولها عشرون ذراعًا لتُحَدَّ من حركته وتكون قيدًا لجسده. إلا أنه أُقنِع بعد تنبيه أحد أساقفة أنطاكية له واسمه ملاتيوس بقطع السلسلة بحيث تكفيه رقابة ضميره قيدًا لجسده. وقد خَلَّف مكان تثبيت السلسلة على فخذه قروحًا تختبئ فيها البراغيث، وهو يحتمل قرصها بشجاعة لمجد الله.
ذاعت طريقة حياته والعجائب التي كان يصنعها الله على يديه، فاقْبِل الناس عليه بكثرة، منهم المرضى لينعموا بالشفاء، ومنهم العاقرون ليرزقهم الله أولادًا، وغيرهم ليمدهم بالنصح والرشاد لحل مشاكلهم المستعصية.
وكان الناس يقصدونه من كل حدب وصوب على مختلف جنسياتهم، من الفرس والأرمن والعرب ومن أقصى الغرب من إسبانيا وإنكلترا وبلاد الغال… وبغية تجنب مضايقة الزوار العديدين انتصب سمعان على عمود أُقِيم له بارتفاع ذراعين بحسب قول “الحياة السريانية” وبارتفاع ستة أذرع بحسب رأي تيودوره أسقف قورش. وأخذ العمود يزداد ارتفاعًا بازدياد حجم أعداد الجمهور الجموع التي كانت تقصد القديس، حتى وصل ارتفاعه إلى 40 ذراعًا بحسب النص السرياني و36 ذراعًا بحسب قول الأسقف تيودوره.
أمضى القديس سمعان على هذا العمود اثنين وأربعين عامًا. نعرف ذلك من تيودوره الذي ذكر في “التاريخ الكنائسي” الذي كُتِب في العام 444 م وأورد فيه سيرة نساك المنطقة أنه رأى القديس سمعان على عموده للمرة الثامنة والعشرين. وبما أن القديس توفي في العام 459 م، فهذا يعني أنه بقي على عموده مدة 42 عامًا.
كان القديس سمعان صاحب رسالة وخطيبًا، يعظ مرتين في اليوم ويوزع نصائحه على قاصديه ومن حوله، يحل خلافات المتخاصمين ويرشد الوثنيين منهم إلى الدين المسيحي. كانت حياته مثالًا نموذجيًا لحياة الناسك السوري الذي كان يعرف كيف يوفق بين الانعزال والنظام القاسي لنكران الذات والمشاركة المباشرة مع مظاهر الحياة المدنية والدينية بالاحتكاك اليومي مع الجماهير. ويذكر الأسقف تيودوره مجيء زوار حتى من رافينا في إيطاليا. وكان يحج إلى العمود وسكانه وفود الرهبان والرسميون وكبار رجال الكنيسة والدولة القادِمون لزيارة أنطاكية وحضور الاجتماعات الدينية فيها، كمجيء الراهب دانيال الذي أصبح فيما بعد من المتحمسين للقديس سمعان، وقد زاره بعد حضور اجتماع ديني في أنطاكية مع مجموعة من الآباء برتبة أرشمندريت.
وقد ساهمت العلاقات التجارية بين أنطاكية والعالم الروماني في إذاعة شهرة القديس سمعان العمودي، وكانت صورته معروضة في محترفات الفنانين في روما، كما يذكر أنه كان يرسل تحياته إلى القديسة جنفياف شفيعة باريس (قرية ليتسيا Lutetia آنئذٍ) مع التجار الغاليين الذين كانوا يزورونه ويُعلِمونه عن قداستها وأخبارها. ومن عجائب القديس سمعان التي يذكرها الأسقف تيودوره، شفاء أحد الأمراء القادمين إليه من الرقة وكان مصابًا بالفالج.
كما استجاب دعاء إحدى أمهات الإسماعيليين فأصبحت أماً بعد أن كانت عاقرًا. وكان أهل فارس يدعونه “الرجل الآلي”، وكانت قوة احتماله للوقوف والسجود فوق عموده في أثناء صلاته عجائبية. فقد عَدَّ أحد مرافقي الأسقف تيودوره 1,244,244 سجدة ثم ضجر وتوقف عن العد. وكان في سجوده ينحني فتصل جبهته إلى إصبع رجليه، ذلك أن معدته التي لا يصل إليها الطعام سوى مرة واحدة في الأسبوع وبكمية ضئيلة كانت تسهُل انحناء ظهره. وكان يبقى بعد غياب الشمس وحتى شروقها في الأفق واقفًا الليل كله رافعًا يديه نحو السماء دون أن يميل إلى النعاس أو يغلبه التعب.
توفي القديس سمعان في 24 تموز 459 وسُجِّي جثمانه قرب أسفل العمود في تابوت من الرصاص. وجاء في سرد العمودي دانيال أنه لم يكن هناك على الهضبة التي انتصب عليها العمود أي بناء، بينما ذكرت رواية أنطون تلميذ سمعان والشاهد العيان لأيامه الأخيرة أن مكان العمود كان محاطًا بسياج فيه باب.
جاء مرتيريوس بطريرك أنطاكية مع حاشية كبيرة لنقل جثمان القديس العظيم إلى العاصمة أنطاكية، فلَقِي مقاومة وممانعة من رهبان تلانيسوس وسكان المنطقة. جاء مرة ثانية وبرفقته 600 جندي بإمرة القائد الأرمني أردبو وأُخِذ التابوت وحُمِل وساروا به على الأقدام حتى قرية شيخ الدير قرب الغزاوية، ومن هناك وُضِع في عربة توجهت إلى أنطاكية حيث كانت الجموع تنتظر وصول الجثمان وهي تحمل الشموع في أيديها.
وُضِع الجثمان مدة شهر في كنيسة كاسيانوس ثم نُقِل إلى كنيسة قسطنطين الكبير. ويعتقد أن سبب نقل الجثمان إلى أنطاكية هو لحمايتها من كوارث الزلازل التي كانت تتعرض لها أنطاكية حينًا بعد آخر. ولم يمنع نقل جثمان القديس سمعان إلى أنطاكية الناس من الحج إلى مكان العمود في جبل سمعان.
في العام 460 م اعتلى دانيال، الذي قلد القديس سمعان بالتنسك، أعلى عمود في الضفة الغربية للبوسفور قرب القسطنطينية، قرب مكان عمود دانيال. وبهذا تم نقل رفات القديس سمعان إليه من أنطاكية، إذ بُنِي المدفن بين 471 و474 م. ولا تُذْكَر سيرة “الحياة السريانية” المكتوبة في 472/473 م إقامة أي بناء في مكان عمود القديس سمعان.
🌟 عمود القديس سمعان
قبل الانتقال إلى وصف الكنيسة التي حول العمود الذي أقام عليه القديس سمعان معظم أيام حياته يبشر ويصلي ويعظ الناس بالخير ويدعو إلى السلام والمحبة، لنتوقف قليلاً عند وصف العمود الذي كان أداة استشهاد الناسك العمودي وكأنه صليب المسيح.
كان القديس سمعان رائدًا بين النساك العموديين الذين اقتدوا به، فكانوا بذلك يبتعدون عن الحياة الدنيوية ويقتربون أكثر من السماء والله تعالى بالصلاة. كانوا ينيرون من حولهم كالشعلة، وكان العمود غالبًا ما يُقام قريبًا من طريق عامة أو من تجمع سكاني.
أما عمود القديس سمعان فكان قطره 1.10م وقد زاد ارتفاعه حتى 16 أو 18 متراً. وكان هناك أعلى العمود ألواح خشبية تستند عليه، لها جوانب كالدرابزون، وهي بأبعاد إمّا مربع طول ضلعه 2 م، أو مسدس، أو دائري، بحيث تُشكّل شرفة تشبه شرفة المئذنة مساحتها حوالي 4 م2، يقيم فيها الناسك العمودي وتمكّنه من الوقوف والسجود والنوم، وهي عادة مُثبّتة بجسم العمود بواسطة زوايا تُثبت بمسامير معدنية.
وكان من مستلزمات العمود وجود السلم للصعود إلى الناسك من أجل طلب النصيحة الفردية.
ولما كان من العار على العمودي أن ينزل من عموده قبل وفاته أو بأمر من السلطات الدينية العليا، كانت الناحية الصحية متوفرة، إذ كان هناك دورة مياه (مرحاض) علوية ترتبط عن طريق أنبوب من الفخار في حفرة فنية (جورة) قريبة من قاعدة العمود. وقد شوهد ذلك في أكثر من موقع عمود ناسك كما في عمود كفر دريان وعمود كيمار وسواهما. كما كان هناك غطاء كالمظلة من سعف النحل لحماية القديس سمعان من حرارة الشمس والمطر، وقد أزاله في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته.
⛪ كنيسة القديس سمعان العمودي
أُقيمت الكنيسة حول العمود الذي قضى عليه القديس معظم حياته، وكانت على شكل صليب مؤلّفة من أربعة أجنحة متعامدة فيما بينها، ما عدا الجناح الشرقي الذي كان يميل مع الحنية 6 درجات أي 43.2 م منحرفًا نحو الشمال. وقد ارتبطت الأجنحة مع بعضها حول العمود بواسطة شكل مثمن قطره 28 م، كانت تعلوه قبة خشبية عظيمة، وكان يغطي كل جناح سقف خشبي مائل يستند على الجدران بجملونات، وربما أخذت فكرة الصليب من المدافن ذات الدهاليز الأربعة.
وتُعتبر كنيسة سمعان جوهرة كنائس “المدن المنسية” ومن أجمل روائع الفن المسيحي ومن أعظم وأضخم الكنائس التي بُنيت في العالم، قبل كنيسة آيا صوفيا “الحكمة المقدسة” التي بناها جوسنتيان في القسطنطينية عام 537 م، فظلت فريدة بعظمتها وضخامتها حتى القرون الوسطى، حيث بُنيت كنائس أضخم منها على الطراز القوطي في أوروبا.
كان كل جناح بحد ذاته عبارة عن كنيسة ذات بهو رئيسي وبهوين جانبيين يفصل بينهما صفان من الأعمدة والأقواس البديعة العالية، بينما بُنيت الحنية في الجناح الشرقي حيث أقيم الهيكل فيها، كما أقيمت في شماله غرفة الخدمة “الدياكونيكون” وغرفة الشهادة “المرتيريون” في الجنوب، وهما على شكل نصف دائري. ومما يُذكر أن هاتين الغرفتين تكونان عادة في جميع الكنائس على شكل مربع أو مستطيل.
كانت جموع الحجاج تصعد من قرية تلانيسوس سالكة الطريق المقدسة، مارة تحت قوس النصر، وهي تنشد التراتيل الدينية، تطوف حول العمود ثم كنيسة القديس، مالئة أجنحة الكنيسة وهي تستمع إلى الصلوات المنطلقة من الجناح الشرقي الذي يُقام فيه القداس أيام الآحاد والأعياد.
وأُقيم في الجنوب الشرقي من حنية الكنيسة الرئيسية كنيسة صغيرة للرهبان ولتأدية الفروض والصلوات اليومية، كما أُقيم في جنوبها دير الرهبان بطبقتين.
لقد بلغت المساحة التي شغلتها الكنيسة الرئيسية وحدها 5000م2، وبلغت مساحة الدير مع باحته والمقبرة 5000م2، بينما شغلت كنيسة المعمودية مع ملحقاتها في الجنوب مساحة 2000م2، مجموع مساحة البناء الكلي 12,000م2. أما طول الكنيسة من الشرق إلى الغرب بما في ذلك المثمن الوسط فهو 100م، ومن الشمال إلى الجنوب 88م، وعرض كل جناح 24م.
🔷 وصف المثمن حول العمود
قامت وسط مثمن الكنيسة قاعدة العمود المربعة يعلوها ما تبقى من عمود القديس، وهو قطعة من الحجر ارتفاعها حوالي المترين وقطرها حوالي 1.15م، وهي كل ما تبقى من العمود الذي كان ارتفاعه حوالي 18م، وقد تآكلت أطرافه بسبب تهافت الحجاج على أخذ ذخائر من عمود القديس سمعان للتبارك بها محمّلها تذكارًا إلى بلادهم.
أما المثمن الأوسط فقد اتصل مع كل جناح من أجنحة الكنيسة المصلبة الشكل بقوس عالٍ متقن البناء يستند على عمودين ينتهيان بتاجين كورنثيين. وكان هناك أربعة أقواس فرعية أخرى وبنفس الارتفاع، تشكّل المثمن الرائع وأظفاره التي كانت تستند عليها ألواح القبة الخشبية، وقد ازدانت بزخرفة صلبان مختلفة. وبهذا كان المثمن منفذاً بحيث يتمكّن جميع المؤمنين الموجودين في أبعد نقطة من الأجنحة الأربعة للكنيسة من مشاهدة العمود المنتصب وسطه.
وهذه الوحدة في الفراغ بين المثمن وأبهاء أجنحة الكنيسة أكملتها وحدة القياسات والأبعاد، إذ كانت عروض أبهاء الكنيسة مماثلة لطول ضلع المثمن وأطوالها مماثلة لقطره. بالإضافة إلى أن زخرفة المثمن استلهمت من زخارف وركائز وأعمدة أبهاء الكنيسة، وبخاصة في تيجان الأعمدة من حيث النقوش والتركيب ونسب الأبعاد. وكان اجتماع أول مرة في هذا المسطح لمكان الشهادة (المرتيريون) للقديس سمعان العمودي المثمن حول العمود، وشكل الصليب في الكنيسة، وكان شكلاً متجانسًا رغم طول أبعاد أطرافه.
لقد تعرّضت البلاد إلى هزات أرضية في العامين 526 و528م، فهُدمت معظم أبنية أنطاكية، وربما سبّبت أضرارًا كبيرة في كنيسة سمعان وبخاصة في المثمن الأكثر تأثرًا بالزلازل، مما جعله يفقد قبته ويبقى مكان العمود مكشوفًا للسماء دون غطاء، كما وصفه لنا إفاغريوس الأنطاكي حين مروره بالكنيسة في 560م.
أما أرضية المثمن الحالية فهي عبارة عن بلاطات غطت الأرضية الصخرية حول قاعدة العمود، ويعود بناؤها إلى القرن العاشر للميلاد. وقد قام الباحث الألماني كرنكر بتحريات وتنقيبات في خريف العام 1938 في المثمن والجناح الشرقي للكنيسة، وهو الذي أعاد ذلك الجزء المتبقي من العمود إلى مكانه فوق المصطبة المربعة.
🏛️ أجنحة الكنيسة حول المثمن
لقد تألف كل جناح من الأجنحة الأربعة حول المثمن من كنيسة ذات ثلاثة أبهاء على نمط الكنائس البازليك المعروفة في القرن الخامس في المنطقة. أما الجناح الغربي المنحدر والمطل على وادي عفرين فقد استند بأبهائه الثلاثة على ثلاثة أقواس قامت فوق ركائز، وكأنها شرفة تطل من الأعلى على الوادي البعيد، وقد قامت الأعمدة والأقواس تفصل بين الأبهاء الثلاثة في الكنيسة، ولم يبقَ من هذه الأعمدة سوى قواعدها وبعض تيجانها. وتشاهد من هذا الجناح بقايا أديرة بلدة تلانيسوس المتناثرة بين دور قرية دير سمعان الحديثة.
أما الجناح الشمالي للكنيسة فقد حفظت جدرانه الخارجية بشكل جيد، وقد ضم جداره الشرقي تجويفًا حوى ثلاثة أضرحة ضخمة من القرن العاشر ربما لمحسنين أو لرجال دين عملوا خيرًا للكنيسة ودفنوا فيها ليُصلّى من أجل راحة نفوسهم مع كل صلاة تُقام في الكنيسة.
أما الجناح الجنوبي، وهو يمثل الجناح الآخر في مخططه، إلا أنه يمتاز بواجهته البديعة بأبوابها ومقدمة مدخلها (نارتكس) وأعمدتها وتيجان أعمدتها الكورنثية التي تميل أوراق الأكانت (الخرشوف) فيها مع الريح مرة إلى اليمين في أحد الأعمدة، ومرة إلى اليسار في عمود آخر، بالإضافة إلى وجود أقواس تفريغ الحمولة أعلى سواكف الأبواب. وقد جرى ترميم بعض أجزاء من عناصر الواجهة من قبل تشالنكو وزملائه من العاملين في آثار حلب بدءًا من الثلاثينات وحتى الستينات، ومن بينهم المهندس جورج قلمكاريان. وتشاهد الأحجار المصفوفة في البهوين الجانبيين، ومن بينها حجر حوى نقش الصليب بشكل حرفين X وP، وهما الحرفان الأولان من اسم السيد المسيح “خريستوس” باليونانية، مع حرفي الألفا والأوميغا أول حرف وآخر حرف من الأبجدية اليونانية.
وهذا تعبير استعمله القس يوحنا، كاتب الرؤيا، عن السيد المسيح “أنا البداية والنهاية”. ومما يؤكد أن الكنيسة هي كنيسة حج إلى مكان عمود القديس سمعان العمودي وجود بابين للبهو الأوسط خلف مقدمة بناء الواجهة الجنوبية (النارتكس) المؤلفة من ثلاثة أقواس عظيمة، كان يُستعمل أحد البابين للدخول والآخر للخروج لتنظيم مرور الحجاج العديدين.
أما الجناح الشرقي الذي ينتهي بثلاث حنيات نصف دائرية، فإن الهيكل يقوم في الحنية الوسطى، ويتألف بدوره من ثلاثة أبهاء كانت تفصل بينها أقواس تستند على أعمدة، وعددها في الجناح الشرقي تسعة، بينما هي في الأجنحة الأخرى سبعة أعمدة فقط، والبعد بين كل عمودين 5.3م. لذا كان هذا الجناح الشرقي حيث تُقام الصلوات أيام الآحاد والأعياد أطول من الأجنحة الأخرى. وقد قام كرنكر كما ذكرنا بالكشف عن أرضية كامل الجناح في 1938، بالإضافة إلى أرضية المثمن، سطرين مكتوبين بأحجار الفسيفساء البيض والسود، فأماط اللثام عن وجود زخارف مرمرية وكتابتين باليونانية والسريانية الدالتين على ترميم تم في القرن العاشر.
كما قام تشالنكو بتغطية الكتابتين تمهيدًا لنقلهما إلى أحد المتاحف، إلا أنهما لا زالتا في مكانهما وسط البهو الأوسط مغطاتين بالبيتون الإسمنتي. وتمتد الكتابة على كامل عرض البهو الأوسط في الأرضية المرمرية القديمة، وهي عبارة عن سطرين مكتوبين بأحجار الفسيفساء البيض والسود وبأحرف ارتفاعها 12 سم مع كتابة سريانية كذلك، وتملأ الكتابة سطرين وفراغًا بطول 7.84م وارتفاع 31 سم، وقد خُرّبت بعض مقاطع من الكتابة بالكامل.
أما النص السرياني فيذكر: “بني جدار هذا الدير وبابه وزينته أيام تيودوروس …. الأب سنة 1290” (بحسب التقويم السلوقي ويوافق 979م). ويقول النص اليوناني: “أسس هذا الدير وجدد مع كنيسته من قبل تيودوروس تحت البطاركة….. وبازيليوس وقسطنطينوس القيصر الأب سنة 979 للميلاد”. أي أن الكتابة اليونانية تذكر بناءً جديدًا وتجديدًا للكنيسة، بينما يذكر النص السرياني بناء جدار ربما كان جدار التحصين الأخير وباب واجهة الكنيسة الجنوبية، وكلاهما تم في 979م، أي قبل فترة من تدمير الدير الذي جرى في 985م على يد سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني.
ويعلمنا كرنكر بوجود تنقيبات سابقة جرت في العام 1902 على يد بعثة روسية، كشفت قرب درجات الهيكل، وسط الكنيسة الشرقية، عن قطعة فسيفساء جميلة على شكل نجمة، عرضها أوسبنسكي في نشرة معهد الآثار الروسي في القسطنطينية.
ويبدو من الثقوب الموجودة في أحجار جدران الكنيسة الشرقية أنها كانت مغطاة بألواح مرمرية. وقد تم مؤخرًا ترميم الحنية والجدار الشمالي للكنيسة الشرقية. ويظهر واضحًا انحراف جناح الكنيسة الشرقي نحو الشمال لدى النظر باستقامة بين عمودين شماليين من المثمن من الجهة الغربية وباتجاه حنية الكنيسة الشرقية.
وتمتاز الحنية الوسطى بخطوط مزخرفة وقوسها الكبير ووجود ست نوافذ على صف واحد سفلي للإنارة، ونافذة منفردة في صف علوي. أما الواجهة الخلفية لحنية الكنيسة الشرقية الرئيسية فقد ازدادت بوجود الأعمدة الناعمة بين النوافذ، كل عمودين أنيقين يتوضع أحدهما فوق الآخر بشكل جميل. وقد قام أفريز علوي من الأحجار الضخمة المنحوتة على شكل أصداف أو صنوبر، تزين أعلى الحنية، طول الواحدة 1.70م. لا زالت الأحجار التي سقطت من هذا الأفريز تنتظر اليد الحانية لترفعها إلى مكانها السابق، وهي الآن مصفوفة ومرقمة من أيام تشالنكو. ويجدر بالذكر أن عدد أبواب هذه الكنيسة المصلبة هو 27 بابًا يدخل منها إلى أجنحة الكنيسة الأربعة من خارجها.
🏛️ دير كنيسة سمعان
يشكل الدير الملحق بالكنيسة مع الجناح الشرقي والجنوبي باحةً مستطيلةً، ويتألف من بناء ذي طبقة أرضية وطبقتين علويتين فوقها. يتقدم واجهته رواق ذو أعمدة ما عدا الواجهة الشرقية. خصص جزء من الطبقة الأرضية اصطبلاً لإيواء الحيوانات، وقد أضيفت إليه بعض الجدران الفاصلة في القرون الوسطى، وكانت إقامة الرهبان فيه في الجهة الشرقية منه.
أما في قسمه الجنوبي فتوجد ملحقات الدير الاقتصادية. هذا وقد قامت إلى الجنوب الشرقي لجناح الكنيسة كنيسة الدير، التي كانت تُستعمل لصلوات الرهبان اليومية، كما ذكرنا، وهي أيضًا من طراز البازليك المؤلف من بهو رئيسي في الوسط، وبهوين جانبيين يفصل بينهما أقواس وأعمدة. أما الحنية فهي باتجاه الشرق دائمًا، وإلى كل من جانبيها غرفة مستطيلة للخدمة في الشمال، ولحفظ ذخائر الشهداء أو القديسين في الجنوب. وقد ارتُمي في الزاوية الجنوبية الغربية من الكنيسة حجرٌ كبيرٌ بديع الزخرفة، ربما كان غطاء جرن المعمودية المستعمل لعماد الأطفال، والقائم مع سوية الأرض شرق البهو الشمالي لنفس الكنيسة.
في الباحة الفاصلة بين الدير والكنيسة الكبرى، وفي طرفها الغربي تقوم منصة صخرية كأنها أُعدّت للخطابة. بينما قامت خارج الواجهة الغربية لكنيسة الدير أحواض صخرية، لعلها كانت تُستعمل معاصر لصناعة الخمور أو زيت الزيتون. وجدير بالذكر أنه لم يكن هناك أي بناء في الجبل عندما كان القديس سمعان على عموده، بينما تذكر إحدى الروايات أن جمهور الحجاج الذي كان يزور القديس سمعان وهو على عموده لجأ إلى الدير القريب إثر هطول المطر الفجائي على الحاضرين.
🏛️ مقبرة الرهبان
تقع إلى الشمال من الكنيسة الكبرى قرب السور الشمالي مقبرة محفورة في صخرة واحدة، تضم في كل من جدارها الشمالي والجنوبي ثلاثة قبور، وفي الجدار الشرقي قبرين، فيكون المجموع ثمانية قبور. وقد حُفرت تحت أرض هذه المقبرة (خشخاشة)، وهي عبارة عن قبو، حُفرت بكاملها في نفس الصخرة الواحدة، بغية وضع عظام المتوفين القدامى فيها. وهناك قبر تاسع خارج مدفن الرهبان، حُفِر في الجدار الشمالي الذي يُشكّل جزءًا من السور.
💧 كنيسة المعمودية للبالغين
على أثر انتشار الديانة المسيحية وإقبال الناس على الدخول فيها بكثرة بالغة، كان لابد من إقامة مبنى خاص لتعميد البالغين والكبار من الناس. لذلك أُقيمت كنيسة المعمودية هذه على بعد 300 متر تقريبًا إلى الجنوب من الواجهة الجنوبية لكنيسة القديس سمعان وعلى ذات المحور الممتد شمال-جنوب.
يتألف هذا الصرح من مبنى مربع، أُقيم في وسطه مثمن صغير في جهته الشرقية، حنية حُفرت في أسفلها حفرة مستطيلة ومكسوة بالقرميد الأحمر، عمقها 80 سم تقريباً، مزودة بدرجتين أحدهما من الشمال والآخر من الجنوب، ليتمكّن الشخص الموعوظ (طالب العماد) من النزول فيها من إحدى جهتيها، والخروج من الجهة المقابلة، بعد أن يُنال العماد المقدس عن يد أحد الكهنة أو الأساقفة ليصبح مسيحياً.
في أرضية هذا البناء توجد قناة حجرية تُسَال منها المياه، ربما، إلى جرن المعمودية أثناء إقامة الرتبة. يحيط بهذا المثمن رواق لإقامة التواطف الطقسي بعد الانتهاء من رتبة العماد، ثم يتوجه المؤمنون إلى الكنيسة المشيدة في جنوب المثمن لاستكمال الطقوس.
بُنيت هذه الكنيسة أيضًا على الطراز البازليك وتتألف من ثلاثة أبهاء وحنية قدس الأقداس في الجهة الشرقية، يقوم إلى جانبيها كل من غرفتي الشهادة والمخصصة للألبسة الكهنوتية.
يعتقد تشالنكو أنه تم بين العامين 476 و490 بناء المثمن والأجنحة الأربعة للكنيسة حوله، وكذلك كنيسة المعمودية. ثم بُدئ بمتابعة بناء الدير والمقبرة والكنيسة جنوب المعمودية في نهاية القرن الخامس عشر للميلاد، وكذلك تعود إلى نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الأبنية الفندقية الملحقة بكنيسة المعمودية والقريبة من الغرب منها، والتي تُبين إحدى الكتابات أن بنّاؤها كانوا من قرية تل عبقرين القريبة.
ولا تُنسى ذكر طريق المواكب الصاعدة التي تصل قرية تلانيسوس في سفح الجبل بالكنيسة مروراً بقوس النصر، حيث كان الحجاج يسلكونها وهم يرتلون الأناشيد الدينية والصلوات قادمين لزيارة القديس على عموده، أو زيارة العمود والكنيسة بعد وفاته مع التواطف حول العمود وأجنحة الكنيسة.
🏰 لماذا سُمِّيت قلعة سمعان؟
ترشدنا الكتابتان اليونانية والسريانية المسجلتان في العام 979 م إلى أن موقع الكنيسة آنئذ كان لا يزال ديرًا جُرِي ترميمه مع كنيسته. ونحن نعلم أن نقفور فوقاس انتصر في العام 969/970 م على الحمدانيين في حلب. وربما فكر بتحصين الدير الواقع عند نقطة مرور هامة استراتيجيًا أو تحصين جزء من هذا الدير الذي تم ترميمه في 979 بحسب الكتابة أيام حكم باسيليوس الثاني وقسطنطين الثامن.
ويعلمنا يحيى بن سعيد الأنطاكي أن دير سمعان كان كثير الرهبان ومزدهرًا في زمنه، وأن جيش سعد الدولة بن سيف الدولة الحمداني قد حاصر الدير مدة ثلاثة أيام في 985 م واحتُلَّ وقتُل رهبانه وباع بعضهم كعبيد.
ويبدو أن البيزنطيين قد عادوا إلى الدير لأنه تم مهاجمته مرتين من قبل الجيش الفاطمي عام 1017 م. إذا لا شك أنه كان هناك عدة هجمات وخراب بين العامين 979 و1017 م، وليس هناك ما يدل على استخدام الدير أيام الحروب الصليبية كدير أو قاعة. عندما حوّل الدير إلى قلعة، بُني السور حول الهضبة بكاملها وجهز بالأبراج العديدة، وقد بلغ عددها 13 برجًا، وكان ذلك في القرن العاشر، مما جعل التسمية “قلعة سمعان” تُطلَق على كنيسة القديس سمعان العمودي.
ولا زالت بعض الأبراج بادية في السور قرب مقبرة الرهبان وفي القسم الجنوبي الشرقي من الأسوار. ولا شك أن هدف القلعة كان حماية طرق المواصلات بين الشمال والجنوب ومراقبة القادمين من السهول الشرقية أو الغربية. ونجد مواقع مماثلة في المنطقة تم تحويلها إلى موقع دفاعي كما هو الحال في كنيسة خراب شمس وقلعة كالوتا وبراد وباصوفان وتل عبقرين وقلعة سرمدا.
ظلت كنيسة القديس سمعان محجًّا للمؤمنين يمكن مقارنته بأماكن الحج المسيحية في فلسطين رغم الدمار الذي لحق بالكنيسة والدير، وذلك حتى القرن السادس عشر، حيث كانت تأتيه النساء العاقرات طلبًا للحصول على نعمة الأمومة. ويذكر أن أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي: “دير سمعان فيه آثار عمارة لا يمكن أن يكون في الآفاق مثلها، وفي وسط الدير قطعة عمود ينفع للحمى إذا أُخذ من حكاكة الحجر على أسم المريض وينذر له شيء، فإنه نافع مجرَّب”. كما يلمح مؤرخ حلب ابن العديم إلى ذكر دير سمعان في كتابه: “زبدة الحلب في تاريخ حلب”.
وكان دوسو أول من ذكر في 1896 وجود القلعة في كنيسة القديس سمعان، وقد أكد وجودها الباحثان فان برشم وفاتيو في كتابهما “رحلة إلى سورية”، وذكرا أن القلعة لم تُشغَل أيام المماليك في القرنين 14 و15 وربما سكنت بين القرنين العاشر والثاني عشر.
وبما يجدر ذكره أن الأب بولس سباط الحلبي يذكر وجود مخطوطتين برقم 492 و493 من فهرس مخطوطاته، وهما من مجموعة ورثة رزق الله باسيل بحلب. أحداهما رسالة في دير مار سمعان العمودي ورهبانه، والأخرى في دير مار أنطاكية ورهبانها، وكلتاهما للراهب قيصر. ولا يُعرف مصير المخطوطتين المفقودتين اللتين ربما حوَتَا معلومات هامة عن أديرة المنطقة، وبخاصة دير سمعان خلال إحدى الفترات التاريخية. حبذا لو يوافينا القراء ممن يعرفون شيئًا عن المخطوطتين المذكورتين بما لديهم، خدمة للعلم والتاريخ.
هذا، وفي القرن التاسع عشر، قام شيخ العرابي بسكن موقع كنيسة المعمودية، بينما قام آغا كردي بالسكن في الجناح الشرقي للكنيسة بعد إقامة الجدران اللازمة لسد الثغرات. وقد قام تشالنكو وكرنكر في الثلاثينات بإزالة هذه الجدران الداخلية حين أُجريَت أبحاثهما وكُشِف عن أرضيات الأجنحة لدراستها وإبرازها وترميم ما أمكن منها.
ويخبرنا تشالنكو بأنه وُضِع ورق مزفت فوق الكتابتين اليونانية والسريانية اللتين كشفهما كرنكر في البهو الأوسط للكنيسة الشرقية، وصُبَّ فوقهما عدسة رقيقة من الأسمنت حماية لهما وتمهيدًا لنقلهما إلى أحد المتاحف، إلا أنهما لازالتا مغطّتين في مكانهما حتى الآن.
ويقوم حاليًا باحثان فرنسيان هما جان بيير سوديني وجان لوك بيسكوب بمتابعة دراسة عناصر كنيسة سمعان العمودي مع إجراء بعض التحريات والتقنيات، وبشكل خاص في أسفل الجناح الغربي للكنيسة المطل على وادي عفرين وإلى الغرب من كنيسة المعمودية. وقد كُشِف مؤخرًا عن بقايا فسيفساء في ركام الجناح الغربي، ربما يعود إلى بناء الكنيسة الأول في نهاية القرن الخامس للميلاد، وننتظر بفارغ الصبر نَسْر دراسة أعمالهما الهامة بعد استكمال أعمال التنقيب.
🗼 العمود رمز القديس سمعان العمودي
كان القديس سمعان في الأصل راعيًا، وبعد اعتلائه العمود حوالي 417 م حتى وفاته في 459، كان يقضي بين الناس في خلافاتهم على رعي قطعانهم ومواشيهم. لذا كان لهم المرشد والهادي كأنه السراج المنير على منارة. وأصبح العمود رمزًا لهم يُتَبَرَّكون به ويحيهم مع مواشيهم. من هنا وُجِد رمز العمود مُنتشراً بكثرة في المعلف وفي تزينات أبواب الكنائس، ومن الأعمدة التي وُجِدَت في المعالف نذكر عمودًا في الطبقة الأرضية من فيلا إلى الغرب من كنيسة خراب شمس، والعمود الكائن في الاصطبل الأرضي مقبل جنوب كنيسة برج حيدر التي لم يبق منها سوى أقواسها وأعمدتها والتي تعود إلى القرن الرابع. ونذكر أيضًا العمود الرائع المضفور الذي يعلوه صليب والموجود بين خرائب القرية القريبة من كنيسة المشبك، وهناك أيضًا أعمدة صغيرة في كفرنابو وبراد وتلانيسوس وسواها.
وقد وُجِدَ رمز العمود تعلوه علامة الصليب على أحجار قائمة في درابزون القسم الفاصل بين هيكل الكنيسة وأبهائها، مثل عمود بافتين والشيخ بركة وسواهما، كما وُجِد رمز العمود على نجفة المدخل الجنوبي لكنيسة داحس الشرقية في جبل باريشا، وعلى نوافذ الواجهة الغربية لكنيسة قلب لوزة، وعلى حجر في كفرلاب وسواها.
💎 الأيقونات (الذخائر)
أن كلمة أولوجي Eulogie تعني في الأصل “بركة” أو “نعمة” يحصل عليها بشفاعة القديس. وقد أخذت تعبر فيما بعد عن كل شيء يخص القديس وفضائله وقدرته. وكان الزيت العنصر الأكثر التصاقًا بطقس الشهداء، ومنهم العموديون، ومن الأشياء الثانوية كان الشعر والماء وثياب القديس. وكان الزيت يوضع في قنينة تُختم بختم العمودي وعليها صورته أو كتابة باسمه. وهكذا انتشر وضع رسم القديس العمودي على ميدالية على شكل قطعة مستديرة Eulogie تُباع في الدير بعد أن تبارك بلمس عمود القديس وتقدَّم نفس ضمانات النعم التي تُقدّمها قنينة الزيت للقديس. كان الحجاج يأخذون معهم بقايا ذخائر أو أيقونات ليشاركهم الأهل حين عودتهم إلى ديارهم بالتبارك من الحج. وكانت هذه الذخائر تُوزَّع في الكنائس والدور وبخاصة غرف النوم، وهي صغيرة الحجم، قطرها 2.5 ـ 3.5 سم، مصنوعة من الزجاج أو الغضار المشوي أو المعدن. وكان يوحنا الذهبي الفم يؤكد على الجانب الروحي الذي يتصف به الزيت المقدس والذخيرة الأيقونة Eulogie، وكان الاعتقاد الشعبي آنئذ يسود بأنها تؤمن حماية ضد الشياطين وبخاصة العين الشريرة. كما أن الأسقف تيودوره القورشي نفسه يذكر أنه عُلّق فوق سريره زجاجة زيت مقدس مأخوذة من قبور الشهداء كانت تحميه من زيارة الشياطين.
لقد عُرِف فن العمارة المسيحي السوري غنى وتنوعًا كبيرين في زخرفة تيجان الأعمدة والنجفات وأشكال الصلبان المختلفة، لكنه تجاهل بشكل مطلق تمثيل الإنسان والحيوان سواء في التماثيل أو الصور، مما كان معروفًا سابقًا في الفترة الرومانية اليونانية حيث كنا نجد غالبًا التماثيل للأشخاص في المدافن، بينما اكتُفِي في الفترة المسيحية برسم أو نقش الصلبان وأقراصها. وربما يعود ذلك إلى التأثير الشرقي وخاصة لدى المسيحية الأولى المتأثرة باليهودية التي كانت تعارض التمثيل بالصور الإنسانية.
إلا أن العموديين كانوا يُشكّلون استثناء من هذه القاعدة، حيث هناك في شمال سورية كمية كبيرة من تمثيلات العموديين على العمود، وبخاصة على الأيقونات التي غالبًا ما مُمثّل عليها القديس سمعان فوق عموده بقبعته الشهيرة وثوبه (الأسكيم)، وعلى جانبيه ملاكان وحمامة، وقرب عموده سلم يرتقي به أحد تلاميذه جالبًا له الطعام، كما وضع أحيانًا فوق العمود شكل صليب رمزًا للقديس بدلًا من صورة وجهه. وهناك صفيحة من الفضة في متحف اللوفر تمثل القديس سمعان على عموده مع السلم، وقد أحاط بالعمود ذكر أفعى له ذقن جاء يطلب الشفاء لأنثاه الأفعى المريضة التي يُمنَع اقترابها من القديس كونها أنثى. وهناك أعمدة وأيقونات عديدة في متاحف العالم مثل اللوفر ومتحف حماه، وفي المجموعات الأثرية الخاصة يجب التمييز فيها بين الأيقونة التي تمثل سمعان العمودي الكبير وسمعان الشاب الذي سكن الجبل العجيب قرب أنطاكية (521ـ592 م).
ومما يجدر ذكره أن هناك أيقونة خشبية رائعة بأبعاد 98.5×67 سم من رسم مدرسة حلب للأيقونات والفنان نعمة المصور تعود للعام 1699، موجودة في كنيسة السيدة في دير البلمند في لبنان، وتمثل القديسين سمعان العمودي الكبير على عموده وتقاطيع أضلاع جزء من جسمه العاري ظاهرة، دليلاً على الصيامات والتقشفات، وإلى جانبه على عمود مماثل القديس سمعان العمودي الشاب في الجبل العجائبي الذي عاش قرب أنطاكية. وقد توزعت حول العموديين صور أشخاص تم شفاؤهم من أمراضهم على أيدي القديسين الناسكين.
كما لا ننسى أن نذكر الخطوط العديدة التي كانت تُحفَر في جدران الأبراج أو الكنائس القريبة من أماكن تواجد النساك وبخاصة العموديين، وكانت على شكل دائرة فوق خط شاقولي أو بالعكس دائرة فوقها خط شاقولي أو على شكل مظلة في الأعلى، وتتراوح أطوالها بين 14 و32 سم، وجميعها تُمَزّ للناسك العمودي. وغالبًا ما كان يُحفَر قربها أشكال الصلبان المختلفة، بعضها مُحاط بهالة أو نصف قوس دائرة من الأعلى أو يستند بعضها على قاعدة. ومعظم الخطوط والأشكال المحفورة تعود إلى القرن السادس وربما حُفِرَت لذكرى حج إلى مكان الناسك أو تيمّنًا للحصول على البركة أو الحماية من العين الشريرة.