الولادة: 350
الوفاة: 410
من هو مار مارون ؟
القديس مارون هو راهب ناسك، آرامي العرق وسرياني اللغة، نشأ في مدينة قورش شمال شرقي انطاكيا (تركيا حالياً) وقد إختار القديس مارون قمّة في ضواحي قورش على علو نحو 800 متر، كان قد أقيم عليها قديماً هيكل وثني لتكريم الشياطين، وكانت هذه المنطقة قد خلت من سكانها، فقصدها مارون في النصف الثاني من القرن الرابع وكرّس هذا المعبد لله وعبادته.
كان القديس مارون يقضي ايامه ولياليه في العراء غير آبه بغضب الطبيعة ولكنّه كان متى اشتدّت العواصف يلجأ الى خيمة نصبها بالقرب من ذاك المعبد، مع العلم بأن تلك الخيمة كان قد صنعها القديس من جلود الماعز التي كانت منتشرة بكثافة في تلك الأرجاء.
لقد هجر مارون الدنيا ليتنسّك في تلك الجبال، يقضي ايامه بالصوم والصلاة والتقشّف.
ولد القديس مارون حوالي سنة 350م وقد أرّخ حياته اسقف قورش المؤرخ الشهير تيودوريطس القورشي، صديق القديس مارون ومعاصره. انصرف مارون إذاً لأعمال الصلاة والتقوى بالإضافة الى الأعمال اليدوية الشاقة لقهر الجسد، لابساً اللباس الخشن.
شاعت أخبار هذا القديس فقصدته الجموع من كل حدب وصوب ملتمسة شفاعته…فمنهم من لجأ اليه لمرض جسدي مزمن وآخرون لمرض نفسي، فانصرف الى وعظ تلك الجماهير ومواساتها، ولعلّ القديس مارون هو الوحيد الذي أنعم عليه الرب بنعمة الشفاء وهو لا يزال على قيد الحياة، فكان يشفي امراض الجسد والنفس، كما ينهي الجموع عن المحرّمات زارعاً فيها بذور التقوى والإيمان، حيث أثرّت هذه الأعمال بالآلاف ورسّخت ايمانها وقوّة عزيمتها…
هرب القديس مارون من الناس، فلحقته اينما حلّ… اعتزل الشهرة على قمة جبل منفرد فشهرته أعماله وذاع صيته في الأمبراطورية البيزنطية التي كانت تسيطر على الشرق بأكمله، فذكره القديس يوحنا فم الذهب (مؤرخ معاصر لمار مارون) من بكوكوزا في ارمينيا وكان القديس المذكور قد عرف مارون شخصياً.
يعتبر الدكتور فؤاد افرام البستاني أن اقرب الأشخاص الى مارون كان الراهب زابينا الذي أولاه القديس الكثير من الإحترام وأوقر شيخوخته واقتدى ببعض طرقه في الزهد والتقشّف، حتى أن بعض المؤرخين اعتبر أن الراهب زابينا قد يكون معلّم مارون، بينما اعتبر البعض الآخر أن زابينا ما هو إلاّ التلميذ المفضل للقديس المذكور، ولكن من الثابت أن هذا الراهب قد وافته المنية قبل مارون، مما دفعه الى الإيحاء للمقربين اليه في رغبته بأن يدفن على مقربة من مرقد زابينا.
مات القديس مارون حوالي سنة 410م (ليس هناك من تاريخ مؤكد فمنهم من يعتبر سنة 422م) ولم تنفّذ وصيته، فتنازعت الجموع على جسمانه الطاهر مما أدّى الى نشوب صراعات.
مصدر آخر
يحفظ لنا ثيودوريطُس الرَّاهب وأُسقف قورش (393-459)، في كتابه تاريخ أصفياء الله، أي تاريخ الرُّهبان الأنطاكيِّين، الَّذي كتبه باللُّغة اليونانيَّة سنة 444، ذاكرة كبار المتوحِّدين والرُّهبان، الَّذين عاشوا في فترة زمنيَّة محدَّدة تمتدُّ من زمن حكم الإمبراطور قسطنطين الكبير (306-337)، مع يعقوب النَّصيبينيّ († 338)، ولغاية زمن حكم الإمبراطور تيودوسيوس الثَّاني (402-450)؛ يُطلعنا فيه على الحياة الرُّهبانيَّة الأنطاكيَّة في فئاتها الثَّلاث: المتوحِّدون، ومن بينهم القدِّيس مارون “المظفَّر العظيم” (16/4)، الرُّهبان (الحياة الدَّيريَّة)، والعموديُّون مع القدِّيس سمعان العموديّ الكبير († 459)، ضمن المنطقة الأنطاكيَّة في الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة الشَّرقيَّة.
يُعتبر كتاب تاريخ أصفياء الله، من بين المؤلَّفات الأخيرة عن تاريخ الرُّهبان في القرون الأولى، وهو من بين الوثائق الأساسيَّة عن الحياة الرُّهبانيَّة، في الأصقاع الأنطاكيَّة من تلك الحقبة. نستند في مقالنا على الترجمة العربيَّة عن الأصل اليوناني للأرشمندريت أدريانوس شكور (ثيودوريطُس، أسقف قورش، تاريخ أصفياء الله، ترجمة أدريانوس شكور، المكتبة البولسيَّة، جونية، 1987).
يوجز ثيودوريطُس القورشيّ، في الفصل السَّادس عشر، من كتاب تاريخ أصفياء الله، سيرة مارون النَّاسك، وهي خالية من التَّواريخ الدَّقيقة، والمعطيات الجغرافيَّة الأكيدة، وما كتبه ثيودوريطُس هو المصدر الوحيد الَّذي نستند إليه للتَّعرُّف إلى مارون، الَّتي تتَّخذه الكنيسة المارونيَّة أبًا وحامياً وشفيعاً.
بعد قرار الإمبراطور تيودوسيوس الأوَّل (379-395) عام 382، بمنع الوثنيَّة وعباداتها في الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، والقاضي بتحويل المعابد والهياكل الوثنيَّة إلى مرافق عامّة، أو إلى كنائس، أو العمل على هدمها. يُطلعنا ثيودوريطُس أنَّ “مارون الشَّهير” (21/3)، قصد رابية (مكان مرتفع)، بُنِيَ عليها هيكلٌ وثنيٌّ (16/1)، كان مهجورًا من أي عبادة وثنيَّة، حيث أقام متنسِّكًا منقطعًا إلى الله. حوَّل “مارون الْمُلهَم” (6/3) ذاك الهيكل إلى عبادة الله، وعلى الأرجح هو “هيكل كالوطه”، الواقع في جوار القورشيَّة، ضمن نطاق حدود أبرشيَّة أنطاكيا، من منطقة جبل سمعان، بحسب خلاصة الأبحاث الأثريَّة الَّتي توصّل إليها الآباء الفرنسيسكان: إنياس بينيا، باسكال كستلَّانا، وروموالدو فرنَنْدِس.
كرَّس مارون النَّاسك لله سور معبد هيكل كالوطه، وعاش في إطاره، يعود هذا السُّور إلى الفترة السّلوقيَّة، إلى ما قبل الوجود الرُّومانيّ في سوريا، أمَّا زمان الإمبراطور الرُّومانيّ أنطونينو بيو (138-161) عرف باسم “هيكل الآلهة الأقدمين”، ليتوافق مع قرار إعلان “السّلام الرُّومانيّ”.
حُوِّلَ الهيكل في القرن الخامس إلى كنيسة، وسعت إلى بنائه المحسنة “مريامني”، الواقع مدفنها على خطوات من الكنيسة. أمَّا في القرن العاشر فتَحَوَّل الموقع إلى قلعة دفاع عسكريَّة، إثر المواجهات ما بين البيزنطيِّين والحمدانيِّين، وعلى أثر ذلك هجر المسيحيُّون المنطقة. بحسب شهادة ثيودوريطُس: “كان حبًّا للحياة تحت قبَّة السَّماء (إبيثروس)، قد اتَّخذ له (مارون) رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين (الوثنيِّين)، حيث كان هيكلًا للشَّياطين. حوَّل ما فيه إلى عبادة الله، ثمَّ ابتنى لنفسه صومعة حقيرة يلجأ إليها في ظروف نادرة” (16/1).
على تلك الرَّابية، عاش القدِّيس مارون حياته في أعمال النُّسك، مولعًا بالجمال الإلهيّ، من خلال الصَّوم والصَّلاة والأعمال النُّسكيَّة المتعبة، ولم يكتفِ بممارسة الأتعاب الشَّاقة، بل كان يزيد من التَّقشُّفات والسَّهر، والتَّأمُّل بكمالات الله، “وكان الَّذي يكافىءُ على الأتعاب يغمره بالنِّعمة” (16/1). إختار مار “مارون العظيم” (22/2) النُّسك والتَّوحُّد “في الهواء الطَّلق”، “تحت قبَّة السَّماء”، مفترشًا الأرض وملتحفًا السَّماء. الكلمة في الأصل اليونانيّ “إبيثريوس” = تحت الهواء الطَّلق)، وهذه الكلمة تعني مكانًا قفرًا بدون سقف، مفتوحًا على السَّماء بلا مأوى؛ وممّا تعنيه أيضًا العيش في ظروف صعبه، أو في مكان محدّد، مغلق بحجارة مجمّعة كسياج (سور) بدون سقف، مفتوح على السَّماء، وتكون وضعيَّة المتوحِّد في حالة من الجموديَّة، ما بين الجلوس والوقوف معظم الوقت، مع فتح الأيدي للصَّلاة والتَّضرُّع. وهذا ما عبّر عنه ثيودوريطُس في عرضه لأنواع الحياة النُّسكيَّة بقوله: “هناك الكثير ممّن ذكرت بعضهم قرّروا أن لا يكون لهم مغارة أو كهف أو خيمة أو صومعة، فعرّضوا أجسادهم للأنواء الجوِّيَّة المختلفة، فتارةً هم مسمّرون تحت وطأة الصَّقيع الَّذي لا يطاق، وتارةً هم يلتهبون بأشعَّة الشَّمس” (27/1).
في الحديث عن يعقوب القورشيّ، تلميذ القدِّيس مارون، الَّذي استقى منه ثيودوريطُس مصادره حول مارون النَّاسك، يأتي الحديث عنه فيقول أسقف قورش: “إنَّ مارون قد ﭐنزوى في جوار هيكل مهيَّأ في الماضي لخدمة الضَّلال القديم ونصب لذاته خيمة من الجلود المكسوَّة بالوبر، ليلجأ إليها في أوقات الأمطار والثُّلوج” (21/3). جاهد القدِّيس مارون، الجهاد الحسن في حياة بطوليَّة، جذبت الكثيرين إليه من تلاميذ وتلميذات للاقتداء بمثاله، ويدعوهم ثيودوريطُس القورشيّ “غروس الفلسفة” (16/3) الَّتي زرعها مارون، اختار هؤلاء العيش وفق نمطه ونهجه النُّسكيّ الشَّظف والقاسي، نذكر منهم: أوسابيوس القورشيّ (18/1)، يعقوب القورشيّ (21/3) وليمنايوس (22/2)، ويوحنّا وأنطيوخس وأنطونينوس (23/1-2)، ومارانا = مَرَنَا (سيّدتنا)، وكيرا = Κυρία (السَّيِّدة)، ودومنينا= Domine (السَّيِّدة) (29-30)؛ المعنى واحد للأسماء الثَّلاثة، بالسُّريانيَّة، واليونانيَّة، واللَّاتينيَّة.
يقول ثيودوريطُس إنَّ مارون النَّاسك “هو نفسه الزَّارع لله في جوار قورش ذلك الفردوس المزهر حتَّى الآن”. منح مار مارون مَنْ تتلمذ عليه التَّعليم المؤدِّي إلى الحكمة، والإرشادات اللَّازمة إلى الفضيلة، ومشجِّعًا مَن كان متكاسلًا، ومروِّضًا مَن كان مايعًا (16/3). كُثرٌ هم النُّسَّاك الَّذين جاهدوا وفق نمط مارون النُّسكيّ بالعيش في العراء؛ يصعب تعدادهم وتدوين حياتهم بالتَّفاصيل، بحسب ما أفادنا ثيودوريطُس (23/2).
منح الله مار مارون موهبة الشِّفاء، حتَّى ذاع صيته في كلِّ الأنحاء، فأتى إليه النَّاس من كلِّ حدب وصوب، طلبًا للصَّلاة ونعمة الشِّفاء، فأضحى طبيبًا ماهرًا، شافيًا النَّاس من كلِّ مرض وعلَّة، في النَّفس والجسد، وبذلك يقول ثيودوريطُس: “كان يرى الأوبئة تزول بندى بركته، والشَّياطين يهربون، وكلّ أنواع الأمراض المختلفة تُعالج بدواء واحد، فإنّ الَّذين يتعاطون الطّبّ يُعالجون كلَّ داء بدواء خاصّ، أمَّا صلاة القدّيسين فهي علاج عامّ للأسقام كلِّها” (16/2).
“بعد أن تعاطى (مارون) الفلاحة الإلهيَّة بشفائه النُّفوس والأجساد معًا”، وبعد أن جاهد وأتمّ شوطه وحفظ إيمانه، “انتابه مرضٌ بسيط أودى بحياته” (16/4). توفِّي مار مارون حوالى سنة 410، ودُفن على الأرجح، في بازيليك بلدة براد، المعروفة بكنيسة يوليانوس (مهندس معماريّ من القرن الخامس).
حصلت مشادَّاة عنيفة لأخذ جثمانه كذخيرة وبركة، وكانت الغلبة للبلدة الكثيرة السُّكَّان، فهذا جرى في الشَّمال السُّوريّ (المنطقة الأنطاكيّة) للحصول على جثامين النُّسَّاك كذخائر. فبراد هي عاصمة جبل سمعان، فيها حامية جند رومانيَّة، وتبعد عن هيكل كالوطه في خط مستقيم 3 كلم، لذا هي متاخمة لها. وفيها كنيسة من أكبر كنائس سوريا آنذاك (من سنة 399- 402)، وقد أضيف إليها معبد – مدفن ما بين العام 407- 427، وذلك يتوافق مع تاريخ موت مارون. كما أنَّ المكان بُنِيَ ليحتوي جثمان راهب مشهور ضمن ناووس حجريّ، من الأرجح أنَّه مارون النَّاسك.
بعد وفاة مارون النَّاسك، ووضعه بإكرام في براد، احتُفِلَ هناك بتذكاره في “مهرجان شعبيّ” على ما يصف ثيودوريطس (16/4)، وهذا الاحتفال بإكرام مار مارون يُتابع إلى يومنا في الكنيسة، بالاحتفال بتذكاره وفق كلندار الأعياد المارونيَّة في 9 شباط من كلّ عام، وطقس الكنيسة الملكيّة، أرثوذكس وكاثوليك، يحتفلون بعيده في 14 شباط، ولساننا يردِّد مع ثيودوريطُس القورشيّ: “نحن أيضًا، على الرَّغم من ابتعاده عنَّا، لا نزال ننال بركته، لأنَّنا نحن نحتفظ بذكراه عوضًا عن قبره” (16/4). مار مارون هو قدِّيس الكنيسة الجامعة، خاصَّة الأنطاكيَّة منها، إذ عاش ومات قبل الانشقاق في كنيسة الشَّرق، إثر مجمع خلقيدونيا سنة 451، وهو من بين أوائل القدِّيسين المعترفين في الكنيسة بعد الشُّهداء مع مار سمعان العموديّ، فهؤلاء عاشوا شهادة الدّمّ، أمّا هو وغيره من قوافل الرّهبان والنُّسَّاك فعاشوا الحياة بشهادة إنجيليَّة صافية.
لقد دُفِنَ مارون في براد، وبعد موته بفترة وجيزة، بُنِيَ على اسمه ديرٌ كبيرٌ في منطقة أفاميا، كان بداية ونواة كنيسة تحمل اسم “المارونيَّة”. فالقدِّيسون، كما مارون، ليسوا حِكرًا على أحد، فهم يتمتَّعون بالشُّموليَّة، أي ملك البشريَّة بأسرها، وجميع الكنائس تجد في مار مارون أبًا وشفيعًا وحاميًا.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت