الولادة: –
الوفاة: –
نالت شهرة فائقة في الشرق والغرب. احتملت الكثير من أجل إيمانها، وبسبب ثباتها آمنت يوليانة بالسيد المسيح بل وتقدمت للاستشهاد. تعيد لهما الكنيسة القبطية في 8 كيهك، وتعيد لهما الكنيسة الغربية واليونانية في 4 ديسمبر.
نشأتها
وُلدت في قرية جاميس التابعة لمدينة ليئوبوليس بنيقوميدية، في أوائل القرن الثالث في عهد الملك مكسيمانوس الذي تولى الملك سنة 236 م، وكان والدها ديسقورس شديد التمسك بالوثنية ويكره المسيحيين.
لما شبت بربارة خاف عليها والدها من مفاسد العصر نظرًا لما كانت تتصف به من جمال فتان، ووضعها في قصر يحيط به العسكر ملأه بالأصنام، وجعل فيه كل أنواع التسلية. كانت بربارة تتلقي أرفع العلوم، محبة للتأمل، إذ اعتادت أن ترفع نظرها نحو السماء تتأمل الشمس والقمر والنجوم، تناجي الخالق الذي أوجد الأرض وكل ما عليها لأجل الإنسان. أرشدها بعض خدامها من المسيحيين إلى العلامة أوريجينوس فاشتاقت أن تلتقي به. وبالفعل إذ زار تلك البلاد التقت به فحدثها عن الإنجيل، فتعلق قلبها بالسيد المسيح، ونالت المعمودية دون أن تفاتح والدها في الأمر.
التهب قلبها بمحبة الله فنذرت حياتها له، واشتهت أن تعيش بتولاً تكرس حياتها للعبادة. تقدم لها كثيرون من بينهم شاب غني ابن أحد أمراء المنطقة ففاتحها والدها في الأمر حاسباً انه يبهج قلبها بهذا النبأ السعيد، أما هي فبحكمة اعتذرت عن الزواج. وإذ كان والدها مسافراً لقضاء عمل ما أرجأ الأمر إلى حين عودته لعلها تكون قد استقرت في تفكيرها. طلبت منه أن يبني لها حماماً قبل سفره، فلبَّى طلبتها، وفتح لها نافذتين لزيادة الإضاءة، أما هي فحولت الحمّام إلى بيت صلاة، متعبدة لله بصلواتٍ وأسهارٍ وأصوامٍ بلا انقطاع. حطمت كل الأوثان، وأقامت صليباً على الحمام وعلى أعلى القصر، كما فتحت نافذة ثالثة، وكما جاء في الذكصولوجية (تمجيد) الخاصة بها: “نور الثالوث القدوس أشرق على هذه العذراء القديسة بربارة عروس المسيح”.
أمام قسوة والدها
إذ رجع والدها لاحظ هذا التغيير الواضح، فسألها عن سبب ذلك. صارت تكرز له بالإيمان بالثالوث، كيف يجب أن نؤمن بالله الواحد المثلث الأقانيم، فاستشاط غضباً وأخذ يوبخها بصرامة، أما هي فلم تبالِ بل في صراحة ووضوح كانت تتحدث معه عن إيمانها وبتوليتها، فثار الوالد وانقض عليها وجذبها من شعرها وهمّ ليضربها بالسيف، فهربت من أمام وجهه وانطلقت من باب القصر، وكان أبوها يركض وراءها. قيل أن صخرة عاقتها في الطريق لكن سرعان ما انشقت الصخرة لتعبر في وسطها، ثم عادت الصخرة إلى حالها الأول. أما والدها إذ رأى ذلك لم يلن قلبه الصخري بل صار يدور حول الصخرة حتى وجدها مختبئة في مغارة، فوثب عليها كذئب على حمل، وصار يضربها بعنفٍ، ورجع بها إلى بيته. هناك وضعها في قبوٍ مظلم كما في سجن.
أمام مرقيان الحاكم
روي ديسقورس للحاكم ما جرى وطلب منه أن يعذبها، لكن إذ رآها مرقيان تعلق قلبه بها جداً وصار يوبخ والدها على قساوته ويلاطفها ويعدها بكرامات كثيرة إن أطاعت أمر الملك وسجدت للأوثان، أما هي ففي شجاعة تحدثت معه عن إيمانها بالسيد المسيح. جُلدت القديسة بربارة حتى سالت منها الدماء، كما كانوا يمزقون جسدها بمخارز مسننة بينما هي صامتة تصلي. ألبسوها مسحاً خشنة على جسدها الممزق بالجراحات، وألقوها في سجنٍ مظلمٍ. إذ كانت تشعر بثقل الآلام ظهر لها السيد المسيح نفسه وعزاها كما شفاها من جراحاتها، ففرحت وتهللت نفسها. استدعاها الحاكم في اليوم التالي ففوجئ بها فرحة متهللة، لا يظهر على جسدها أثر للجراحات فازداد عنفاً، وطلب من الجلادين تعذيبها، فكانوا يمشطون جسدها بأمشاط حديدية، كما وضعوا مشاعل متقدة عند جنبيها، وقطعوا ثدييها؛ ثم أمر الوالي في دنائة أن تساق عارية في الشوارع. صرخت إلى الرب أن يستر جسدها فلا يُخدش حيائها، فسمع الرب طلبتها وكساها بثوب نوراني. رأتها يوليانة وسط العذبات محتملة الآلام فصارت تبكي بمرارة، وإذ شاهدها الحاكم أمر بتعذيبها مع القديسة بربارة، وبإلقائها في السجن، فصارتا تسبحان الله طول الليل.
استشهادهما
أمر مرقيان الحاكم بقطع رأسيهما بحد السيف، فأخذوهما إلى الجبل خارج المدينة وكانتا تصليان في الطريق. وإذ بلغتا موضع استشهادهما طلب ديسقورس أن يضرب هو بسيفه رقبة ابنته فسُمح له بذلك، ونالت مع القديسة يوليانة إكليل الاستشهاد. جسد القديسة بربارة موجود حالياً في كنيسة باسمها بمصر القديمة. وقد رأى بعض المؤرخين انها استشهدت بهليوبوليس بمصر.
مصدر آخر
تذكار القديسة العظيمة في الشهيدات بربارة (بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)
كان ميلاد بربارة في أوائل القرن الثالث للمسيح، في مدينة نيقوميذيا من أعمال بيثينيا. وكان أبوها المدعو ذيوسقورس من الأشراف، غنيّاً، معروفاً بين الأسر الكبيرة، صاحب إسم كبير وجاه وكرامة. وكان متحمّساً للوثنية، شديد التمسّك بأصنامه، يكره المسيحيين ويترفّع عن محيطهم ويزدريهم. وكان حاد الطبع نفوراً، لا يجسر أحد في حضرته أن يقول غيرقوله. لكنّه كان كريماً، مبسوط اليدين، كثير العواطف. أمّا والدتها، فأنّ التاريخ لم يذكر شيئاً عنها، بل كانت قد ماتت قبل أن تبلغ بربارة أشدها. وما كاد الموت يطوي تلك الوالدة المسكينة حتى كانت بربارة قد بدأت تسحر الألباب، بجمال قدّها وبهاء طلعتها وعذب كلامها وحدّة ذكائها. فخاف عليها أبوها أن تصل مفاسد ذلك العصر إليها، فعزم على أن يحجزها عن الأنظار ويقيها بذلك من الأخطار. فأقامها في قصر منيف عالي الأسوار، وأقام لذلك القصر حرّاساً وحجاّباً. ولكي لا يكون ذلك القصر لإبنته العزيزة سجناً أليماً، جعل لها فيه كل أنواع البهجة وصنوف المسرّات. وخصّص لسكانها غرفة رحبة ذات نافذتين في أعالي برج، حتى تستطيع أن تتمتّع بمشاهد المدينة ومحاسنها ولا يتسنّى لأحد أن ينظر إليها.
ولمّا وجدها على جانب عظيم من الذكاء أتاها بأساتذة ماهرين. فزيّنوا عقلها بشتّى العلوم العصرية، من بيان وتاريخ وفلسفة، شأن بنات الأشراف في ذلك العصر. ولكي تنشأ نظيره على حب الآلهة واعتبارهم، جعل أصنامهم في كل ناحية من نواحي البيت والحديقة، حتى يقع بصرها عليهم أينما إتّجهت وحيثما نظرت.
واكبت بربارة على العلوم، وأتاحت لها وحدتها عادة التأمّل والتفكير. فشبّت على الميل إلى الرصانة وإستطلاع أسرار الكائنات. ولمّا كان العلي قد إصطفاها لكي تكون إبنة خاصة له، صبّ أنواره الإلهيّة في عقلها وجعل قلبها يزهد في الدنيا وزخرفها ويستحقرها. وبدأت ترى في تلك الأصنام حجارة صمّاء، لا حياة لها ولا جمال، ولا ما يحلو في العين ولا ما ينعش القلب. وقادتها كثرة الـتأمّل إلى البحث عن الإله الحقيقي، الذي نثر االنجوم في السماء وأنبت أزهار الحقل وأبدع بدائع الأرض. وأخذت تبحث عن رجل يكون عالماً علاّمة يشرح لها أسرار الألوهيّة ومخبّآت الطبيعة. وكان بين خدّامها أماس مسيحيّون، فأخبروها عن عالم كبير قد طبّق صيته الخافقين، وهو أورجانس أستاذ أساتذة معهد الإسكندريّة. فأسرعت وكتبت إليه وشرحت له أفكارها، وطلبت إليه أن يكون مرشدها.
ففرح أورجانس بكتابها فرحاً عظيماً، وأعجب بتلك النفس العالية وبذلك العقل الناضج، وقبّل الأرض وسبّح الرب الذي يعطي حكمته للأطفال. وأجابها عن كتابها برسالة بديعة، ورسم لها بريشته الرائعة صورة حيّة للديانة المسيحية. وسلّم تلك الرسالة إلى تلميذه فالنتنيانس، وأوصاه أن يذهب إليها ويشرح لها بأسهاب تعاليم الإنجيل وأسرار ديانة المسيح. فلمّا قرأت بربارة رسالة أورجانس ملأت الأنوار الإلهيّة عقلها وحركّت نعمة الروح القدس قلبها، واحتالت على حجّابها فأدخلت فالنتنيانس إليها، ومنه وقفت على أسرار الحياة الإلهيّة، والألوهيّة المثلثة الأقانيم، وتجسّد المسيح.. فأفعمت تلك التعاليم السامية قلبها حبّاً للمخلّص ولديانته الألهيّة السماوية، ورجت من فالنتيانس أن يمنحها نعمة العماد. فعمّدها وأتاها بالقربان فناولها، وفاضت نفسها بالشكر والتسبيح. ومن ذلك الوقت خصّصت بتوليتها للرب على مثال العذراء البتول الطاهرة.
ولم يكن وقف عواطفها لحب يسوع وحده دون سواه بدافع الجهل وعدم التروي وثورةً من قلبها الفتيّ الحسّاس، بل إنّما كان ذلك بعد الصلاة والتـأمّل وإدراك عظم تلك المسؤولية وما قد تجرّه عليها من الأخطار والغموم، ولاسيّما من غضب أبيها الذي كان يفكّر في زواجها وسعادتها الأرضيّة. فلم تقدم على إبراز نذورها وتخصيص بتوليتها للرب إلاّ بعد ان إستعدّت للآلام والإستشهاد.
وحدث ذلك كلّه وأبوها لا علم له بشيء، بل كان يرى إبنته تتقدّم كل يوم في العمر وفي الجمال الفتّان، وفي حبّه وإكرامه والعناية به. فازداد بها شغفاً وعمل على توفير جميع أسباب السعادة لها.
وكثر خطّابها. ففاتحها أبوها ذيوسقورس بأمر الزواج. فرفضت بلطفٍ، وقالت له أنّها لا تريد أن تبتعد عنه ولا أن تفكّر في سواه. ولم تكن بذلك كاذبة، وإن لم يكن ذلك السبب هو الوحيد في إمتناعها. فسكت أبوها وتركها، وقال في نفسه: لا بد للأيام من أن تغيّر أفكارها وتثير عواطفها.
لكن الخطّاب، وكلّهم شريف وكلّهم غني، ما لبثوا أن أعادوا الكرّة على ذيوسقورس في طلب بربارة، وكلّ يدّعي الحق بالسبَق إلى قلبها. فعاد أبوها إلى التحدّث معها بذلك، فعادت إلى دلالها معه والتحصّن وراء حبّها له وتعلّقها به، فسكت. وعزم على الإبتعاد وقتاً عن إبنته، أملاً منه بأن بعاده عنها يجعلها تتعوّد فراقه أولاً، ثم يحملها شوقها إليه أن تنقاد صاغرة لإرادته. فسافر وتركها بعد أن وفّر لها كل أسباب الراحة والرفاهية. لكن بربارة البتول عرفت أن تتّخذ من وحدتها سبيلاً للتفرّغ للصلاة والتأمّل، وقراءة الكتب المقدسة وسيَر إستشهاد العذارى البتولات. وأخذت تشتهي لو تسفك هي أيضاً دمها في سبيل حبيبها وعروسها يسوع.
وقامت إلى الأصنام الموجودة في الحديقة وفي البيت، فأمرت خدّامها بتحطيمها فحطّموها. وفتحت لغرفتها نافذة ثالثة، لتكون النوافذ الثلاث رمزاً حسيّاً للثالوث الأقدس مصدر الأنوار في العالم وفي قلوب المؤمنين.
وظهر لها يسوع يوماً بهيئة طفل جميل الطلعة بهيّ المنظر، فبسم لها ولاطفها. ثم رأته قد تغيّر وتحوّل جماله إلى جسم مخضّب بالدماء. فذاب قلبها حبّاً له وحزناً على آلامه، فتاقت إلى أن تتشبّه به. وظهرت لها الملائكة مراراً وكانت لها سلوى في خلوتها. وكانت أفكارها وعواطفها وحياتها كلّها مع الملائكة.
وعاد أبوها، فهرعت لإستقباله وعانقته. فظنّها قد إستسلمت له بكل أميالها وعواطفها. وما أن قضى معها وقتاً وجيزاً حتى عاد إلى نغمته الأولى وفاتحها من جديد بشأن زواجها. فامتنعت كعادتها. فأصرّ على ذلك وأوضح لها أن أبناء اشراف المدينة يرغبون في خطب ودّها، وأن سعادته تكون في أن يراها زوجة لواحد منهم وأمّاً لأولادٍ يفرح بهم.
حينئذٍ جمعت بربارة قواها وصرّحت له أنّها خطبت نفسها لعروس سماوي يفوق كل عريس على الأرض. ولذلك فأنّها لا تتزوّج من أحد. فاضطرب ذيوسقورس وخاف أن تكون إبنته مالت إلى النصرانية وانتحلت تلك الأوهام والخزعبلات. لكنّه أسرع وأبعد عنه ذلك الفكر الراعب. وقال لها بلهجة شديدة: إفصحي في كلامك. إنّني لا أفهم ماذا تقولين ولا ماذا تبغين. من هو ذاك العريس الوهمي؟ أن إرادتي يجب أن تطاع. لا عريس لك إلاّ من أريده لكِ. وإلاّ فأنتِ تعرفين مقدار غضبي على من يجسر على مقاومتي.
فأيقنت حينئذٍ أن المعركة قد بدأت. فتضرّعت إلى عروسها يسوع لكي يثبّتها في عزمها. فغضب أبوها وقال لها: ألا تجيبين بشيء؟ فجمعت بربارة قواها وقالت: أنا مسيحيّة، وقد نذرت لله بتوليتي. فوقعت تلك الكلمات على قلبه وقع الصاعقة، وجنّ جنونه وأخذ يلعن ويشتم، وبربارة صامتة منكّسة الرأس تستغفر في قلبها له. ثم تركها وخرج وهو لا يعي من شدّة الغضب.
وتفقّد البيت، فرأى الأصنام محطّمة والصلبان مرسومة على الجدران، فتحقّق كلام إبنته. فعاد إليها، وقلبه يتمزّق حزناً وكمداً. وأخذ يشرح لها فظاعة عملها وخسارة حياته وأمواله وإسمه وشرف أسرته، وأن الإمبراطور لا بد أن ينتقم منها ومنه، وأنّها بفعلها هذا تهدم بيتاً ما زال مرفوع العماد.
فاندفعت بربارة، بفصاحتها وطلاقة لسانها، تدافع عن موقفها، وتبيّن لأبيها غباوة الإعتقاد بالأصنام التي لا وجود لها ولا حياة، وأن الإله المثلث الأقانيم صانع السماوات والأرض هو الإله الحقيقي، مفيض النور ومبدع الكائنات.
فلم يستطع أبوها أن يحتمل أكثر من ذلك، بل ثار ثائره واستلّ سيفه وأراد الفتك بإبنته. فهربت من وجهه. فلحق بها وكاد يدركها في الحديقة عند صخرة كبيرة قائمة هناك. لكن الصخرة إنفتحت أمامها، فجازت البتول فيها ثم أطبقت. فوقف ذيوسقورس أمامها حائراً ساخطاً لكنّه ما لبث أن عرف مقرّها، فركض إليها كالمجنون الثائر. فلمّا رأته جثت أمامه وأخذت تتضرّع إليه أن يمسك عن الفتك بها. أمّا هو فجعل يضربها ضرباً عنيفاً، ويلكمها بيديه ويدوسها برجليه. ثم أمسك بها من شعرها وجرّها إلى قبوٍ مظلم، حيث كبّلها بالقيود وطرحها على الحضيض.
أمّا بربارة، فقد فرحت فرحاً يفوق الوصف بكونها إستحقّت نظير الرسل أن تحتمل الإهانة والضرب والسجن لأجل إسم الب يسوع. وظهر لها ملاك يشجّعها ويقويّها ويقول لها: لا تخافي أيتها البتول المسيحيّة، فأن الله سيكون دائماً نصيرك.
فأرسل الوالي في طلبها. فأتيَ بها مكبّلة بالسلاسل، وازدحمت حولها الجموع لتنظر ماذا يكون من أمرها.
فلمّا نظر الوالي إلى تلك الطلعة الملائكيّة هدأ غضبه. وأمر فنُزعت أغلاها، ولام أباها على إستعمال العنف معها. وأخذ يلاطفها أملاً منه بأن يعيدها إلى رشدها.
فرفعت بربارة رأسها وأجابت بوداعة ولكن بثبات، والعيون كلّها إليها شاخصة والآذان لسماعها مرهفة: أنّ قلبي معلّق بالخيرات الأبدية الحقيقيّة التي وعدنا بها يسوع المسيح ربّي وإلهي.
فاستشاط الحاكم غضباً. فأمر بها الجلادين، فنزعوا عنها ثيابها وجلدوها جلداً عنيفاً حتى تفجّرت الدماء من أعضائها الغضّة. ثم أمرهم، فمزّقوا جسدها الدامي بحدائد مسنّنة، حتى أن الحضور أخذتهم الشفقة وذرفوا الدموع على صباها ونضارتها. أمّا هي فكانت صامتة وديعة كالحمل الذي يُساق إلى الذبح.
أمّا الحاكم، ذلك الوحش الضاري، فكان كلّما أظهرت بربارة بسالة إزداد هو عتوّاً وفظاظة. فأمر بها فعلّقوها في الفضاء، ورأسها إلى أسفل، وأخذوا يضربونها على رأسها حتى سالت منه الدماء. ثم أنزلوها ورشّوا على جسدها الجريح ملحّاً، لكي يزيدوا في آلامها. ولفّوها بمسح غليظ، وجعلوا يدحلون جسمها المثخن بالجراح على قطع من الفخّار المكسّر. ومع ذلك كلّه لم يظفروا منها بأنين ولا بتوسّل. فأعادوها إلى السجن. وعاد أبوها إلى البيت، والموت في قلبه، لِما نال كبرياءَه والهوان.
فجلست بربارة في سجنها، تصلّي وتقدّم للرب يسوع ذبيحة حياتها حبّاً له. فظهر لها الفادي الإلهي وشجّعها وملأ قلبها تعزيةً وثباتاً، وشدّد عزيمتها لخوض معركة اليوم الثالث من أيام إستشهادها.
فلمّا كان الصباح، أخرجوا بر بارة من سجنها وقادوها من جديد أمام الحاكم، وإذا بها صحيحة الجسم معافاة كأنّها لم يمسّها ضرّ أمس. فرغب الحاكم في المغالطة، فقال لها: أرأيت ما فعلت آلهتنا بك، وكيف أبرأتكِ وشفت جراحاتك فأجابت بربارة أن الذي شفاني هو يسوع المسيح ربي وإلهي.
فلم يصبر الحاكم على مثل هذا الجسارة. فأمر بها، فمزّقوا جسدها من جديد بالسياط والمخارز الحديديّة، فسالت الدماء مرّة ثانية ينابيع فيّاضة. أمّا هي فكانت ثابتة العزم مستسلمة لأيدي الجلاّدين. وما كادت تلك العذراء تنهي صلاتها حتى شاهد الناس جروحها قد شُفيت، فلمّا رأى الحاكم ذلك خاف الفضيحة وأمر بأن يقطع رأسها.
حينئذٍ شاهد الناس رجلاً قد برز من بين الجمع والشرر يتطاير من عينيه. فتقدّم أمام الحاكم وطلب إليه أن يسمح له بأن يقطع بيده رأسها. وتعالت الأصوات تقول: أبوها أبوها! نعم أنّه كان ذيوسقورس أبوها. فسمح له الحاكم أن يكون بطل تلك الفظاعة البربرية فقبض عليها وسار بها كالمجنون إلى خارج المدينة ليذبحها. وتبعته الجموع تلعنه وتصبّ عليه جام سخطها. أمّا هو فكان يتابع السير ولا يعي من الغضب.
فلمّا رأت البتول أن ساعتها قد دنت، وأنّها لم تستطع أن تتناول جسد الرب، صلّت وطلبت إلى عروسها يسوع أن لا يحرم هذا الزاد الإلهي الأخير كل من يطلب هذه النعمة بشفاعتها. فوعدها الرب يذلك. ووصل ذيوسقورس بإبنته إلى رأس الجبل واستلّ الفأس. فجثت بربارة أمامه وضمّت يديها إلى صدرها وحنت رأسها، فضربها ضربة واحدة قطع بها ذلك الرأس النضر، فتدحرج على الأرض. فطارت نفسها إلى خدر عروسها لتنعم معه بالأفراح السماويّة إلى الأبد.
وعاد ذلك الأب، بل الوحش الضاري، وفأسه تقطر من دم إبنته. لكن غضب الله ما عتم أن انصبّ عليه. فأظلمت السماء وتكاثفت الغيوم وقصف الرعد، وانقضّت صاعقة على ذلك الاب الجهنّمي، فأحرقته بنارها، وأحرقت أيضاً مركيانوس الحاكم الظالم. فارتاع الناس وأخذوا يقرعون صدورهم، كما فعل اليهود فيما مضى بعد موت الفادي الإلهي. وكان ذلك سنة 235.
وذاع صيت تلك العذراء في الآفاق، وكثرت العجائب التي نالها الناس بشفاعتها. وهي لا تزال الآن الشفيعة القادرة، يتضرّع إليها المؤمنون خصوصاً في أمراض العيون وفي إشتداد الصواعق وفي أخطار الموت.
موسوعة قنشرين للآباء والقديسين ـ رصد انترنت