الولادة: 375
الوفاة: 444
وهو الملقب “كيرلس الكبير” وأيضاً “كيرلس عامود الدين”. ارتبط اسم القديس كيرلس أبديًّا بالصراع الثاني العظيم في اللاهوتيات الخاصة بالسيد المسيح، قاد إلى عقد المجمع المسكوني الثاني في أفسس عام 431، وإدانة نسطور بطريرك القسطنطينية. ويعتبر أحد الأباء البارزين ولاهوتي الكنيسة، ونُدين له أكثر من أي لاهوتي آخر، فقد أدرك التجسد بفكر آبائي.
✝️نشأته
لا نعلم عن حياته الكثير وخصوصاً في سنواته المبكرة الأولى. عاش جدّاه الغنيّان التقيّان في ممفيس في مدينة أركاديا (حالياً ميت رهينة جنوب الجيزة). ولما تنيّحا اهتمّت مربية أثيوبية وثنية، ولكنها كانت بقلبها محبة للمسيحية، بالطفلين: ثاؤفيلس وأخته الأصغر منه والدة القديس كيرلس. رافقتهما إلى هيكل أرتيموس وأبوللون، وعند وصولهم سقطت الأوثان فارتعبت المربّية. هربت إلى الإسكندرية حيث التقت بالقديس أثناسيوس الذي روى لها ما حدث معها في الهيكل فقبلت الإيمان واعتمدت مع الطفلين. سيم ثاؤفيلس بابا الإسكندرية، وعاشت أخته في بيت للعذارى حتى تزوجت برجلٍ تقيٍ من محلة البرج (ديدوسقيا) شمال المحلة الكبرى.
وُلد كيرلس ما بين سنتي 375 و380م، ونال قسطاً وافراً من العلوم الكلاسيكية واللاهوتية حيث كانت الإسكندرية مركزاً عظيماً للتعليم. هذا بجانب ما تمتع به من تعاليم على يديّ خاله، فشبّ على معرفة العلوم الدينية والشغف بقراءة الكتب المقدسة وأقوال الآباء وسيرهم، كما كان يمتلك موهبة حفظ الألحان الكنسية وترديدها. ألحقه خاله بالمدرسة اللاهوتية بالإسكندرية لدراسة العلوم الفلسفية التي تعينه على الدفاع عن المسيحية ضد الهراطقة والمبتدعين، فتمكن من دراسة جميع العلوم الدينية والفلسفية، وتهذب بكل العناية الفائقة منذ الصغر وحتى تخرجه. في برية الإسقيط لم يكتفِ خاله بذلك بل أرسله إلى البرية في جبل النطرون إلى دير أبي مقار، حتى يتتلمذ على الأنبا سيرابيون تلميذ الأنبا مقاريوس الذي أوصاه بأن يقوم بتهذيبه بكل العلوم الكنسية والنسكية.
ومكث بالفعل مع أستاذه مدة خمس سنوات في جبل نتريا، تمكن خلالها من التهام كتب الكنيسة وأجاد بإتقان كل علوم الكنيسة، وأعطاه الرب نعمة وفهماً عجيباً حتى كان إذا قرأ كتاباً مرة واحدة حفظه عن ظهر قلب. يقول: “في وقتٍ مبكرٍ تعلمت الكتب المقدسة، وتدرّبت على أيدي آباء قديسين أرثوذكس”. هنا يقصد بالآباء “الرهبان”.
🕍 سيامته شماساً ثم قساً
بعد كل هذه الدراسات عاد إلى الإسكندرية حيث خاله الذي امتدح نبوغه العظيم المبكّر، وعلى الفور قام بسيامته شمّاساً. وقد كان القديس كيرلس إذا ما وقف ليرتل الإنجيل تمنى المؤمنون ألا ينتهي من القراءة لرخامة صوته. سامه بعد ذلك قساً، وكلّفه بالقيام بالوعظ رغم صغر سنه، فحاز إعجاب السامعين ونال رضى جميع الكهنة والعلماء في جيله، حيث برع في فهم الأسفار المقدسة وشرحها بطريقة عجيبة. كان يرافق البابا في الاجتماعات الهامة حتى في مجمع السنديان بالقرب من خلقيدونية حيث دين القديس يوحنا ذهبي الفم عام 403م.
⛪ سيامته بطريركاً
ما كاد العرش المرقسي يخلو بنياحة البابا ثيؤفيلس في 18 بابة سنة 129ش الموافق 15 أكتوبر سنة 412م، حتى قال الشعب القبطي كلمته وأجمع الإكليروس على انتخاب القس كيرلس ليخلفه على العرش. أجمع الكل على تتويجه بطريركًا بعد يومين فقط من نياحة خاله، فجلس على الكرسي في 21 بابة سنة 129ش الموافق 18 أكتوبر سنة 412م في عهد الإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير. حسب الطقس القبطي زار البابا دير القديس مقاريوس الكبير حيث خدم أول قداس إلهي بعد سيامته.
🌟 قضية القديس يوحنا ذهبي الفم
في بداية عهده كبطريرك كان البابا كيرلس متأثراً بالقضية التي ثارت بين خاله البابا ثيؤفيلس وبين القديس يوحنا ذهبي الفم، فعكف على دراسة هذه القضية وهو يعرف أن خاله كان قد ندم على إصداره حكم النفي على ذهبي الفم، وظهر ندمه هذا في آخر حديث له قبيل انتقاله من هذا العالم. وأخيراً بإرشاد الروح القدس قام بإلغاء الحرْم الذي كان قد أصدره البطريرك ثيؤفيلس ضد القديس يوحنا الذهبي الفم، كما قام بتكريم القديس يوحنا ذهبي الفم والاعتراف بفضله أمام الجميع، وأشاد بمؤلفاته الكثيرة ذات القيمة العظيمة، كما أنه أثناء قيام البابا كيرلس بتدوين قداس القديس مرقس الرسول دوَّن اسم القديس ذهبي الفم في قائمة أسماء القديسين الذين يُذكَرون فيه، وهكذا وضع البابا كيرلس حداً نهائياً لهذه القضية.
⚔️ الدفاع عن الإيمان المستقيم
ارتبط اسم البابا كيرلس الإسكندري بالدفاع عن الإيمان المستقيم، وقد واجه المشكلات الهامة التالية:
– كتابات يوليانوس الجاحد: الذي وضع ثلاثة كتب ضد المسيحية “ضد الجليليين” طعن فيها في ألوهية السيد المسيح وشكّك في أقواله وتعاليمه ومعجزاته. فقام البابا كيرلس بالرد على هذه الأقوال وفنّدها كلها، وذلك في ثلاثين كتاباً حرّرها سنة 433م، ولا تزال عشرة كتب موجودة من الثلاثين. ولم يكتفِ بذلك بل كتب للإمبراطور ثيؤدوسيوس الصغير يطلب منه جمع كل نسخ كتب يوليانوس وحرقها فكان له ما أراد.
– إتباع نوفاتيوس الهرطوقي قس كنيسة روما الذي كان يرفض توبة من جحد الإيمان أثناء الاضطهادات، فأوضح البابا كيرلس فساد هذا المعتقد، وأمام إصرارهم على رأيهم اضطر البابا أخيراً أن يطردهم من الإسكندرية.
– ثورة اليهود على المسيحيين حين رأوا انتشار المسيحية السريع فقاموا بأعمال قتل وعنف ضدهم. فقد أشاع اليهود أن إحدى الكنائس قد استعلت بها النيران، وإذ اجتمع مسيحيون حولها لإطفائها قاموا بقتلهم. قابلها المسيحيون من جهتهم بمحاولات عنف مضاد حاول البابا منعها، ولما لم يستطع استأذن الإمبراطور وطرد اليهود من المدينة دون سفك أي دماء، وبهذا انتهت الجالية اليهودية بالإسكندرية. بسبب جهاده غير المنقطع ضد ما تبقّى من وثنية أُتهم بالمسئولية عن قتل الفيلسوفة هيباتيا التي كانت تتبع الأفلاطونية الحديثة، وكانت صديقة والي المدينة أورستيوس، فيقول سقراط أنها ماتت بطريقة بشعة على أيدي بعض المسيحيين في مارس سنة 415م. 4.
أهم مشكلة واجهها البابا كيرلس كانت بدعة نسطور بطريرك القسطنطينية الذي نادى بأن في السيد المسيح أقنومين وشخصين وطبيعتين، فهو حين يصنع المعجزات يكون ابن الله وحين يتألم ويجوع ويعطش ويصلب ويموت يكون ابن مريم. اهتم البابا بالدفاع وتثبيت اللقب التقليدي للعذراء وهو ثيؤتوكوس أي والدة الإله، ليس باعتباره لقباً لمجرد تكريمها إنما لأنه يحمل إعلاناً لعقيدة إيمانية جوهرية حول شخص السيد المسيح نفسه بشأن اتحاد لاهوته بناسوته، مؤكداً أن هذا هو التعبير واللقب التقليدي والكتابي الذي اختاره أثناسيوس الرسولي.
✨ نسطور يعلن عقيدته
بدأت المعركة بوضوح عندما كرز كاهنه أنسطاسيوس القادم من إنطاكية أمام القديس كيرلس في ديسمبر 428م، قائلاً: “لا يدعو أحد مريم ثيؤتوكوس، لأن مريم كانت امرأة، ويستحيل أن يُولد الله من امرأة”. أعلن نسطور موافقته على هذا التعليم علانية، وقدم بنفسه مجموعة عظات ميّز فيها بين الإنسان يسوع المولود من مريم وابن الله الساكن فيه. فهو يرى أنه يوجد شخصان متمايزان في المسيح: ابن مريم وابن الله ، اتحدا ليس أقنوميّاً بل على مستوى أخلاقي. لهذا لا يُدعى المسيح “الله” بل “ثيؤفورن”، أي “حامل الله”، وذلك كما يمكن أن يُسمى القديسون من أجل النعمة الإلهية الموهوبة لهم. وبالتالي فإن مريم ليست والدة الإله بل والدة الإنسان يسوع الذي سكنه اللاهوت. انتقد نسطور وأتباعه المجوس لسجودهم للطفل يسوع، كما كرزوا بأن اللاهوت انفصل عن الناسوت في لحظة الصليب.
🏥 الرسالة الفصحية لسنة 429م
انتهز البابا كيرلس فرصة عيد الفصح عام 429م. وكتب في رسالته الفصحية ما يفنّد هذه البدعة دون الإشارة إلى اسمه. وأرسلها إلى جميع الكنائس في كل مكان، كما أرسل رسائل كثيرة إلى نسطور ملأها بالحجج الدامغة والبراهين القوية التي تظهر فساد هرطقته لعله يقتنع ويرجع عن ضلاله. وأمام إصرار نسطور على رأيه ومعتقده عقد البابا كيرلس مجمعاً مكانياً في الإسكندرية من أساقفة الكرازة المرقسية أدان فيه نسطور وشجب كل تعاليمه وأرسل تقريراً بما حدث في المجمع إلى سفرائه الموجودين في القسطنطينية وإلى كلستينوس أسقف روما، ثم إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس حين رآه يدافع عن نسطور حاسباً إياه رجلاً فاضلاً عالماً.
وأخيرًا قام البابا بعقد مجمع إقليمي آخر في الإسكندرية عرض فيه كل المحاولات لمقاومة بدعة نسطور والرسائل التي كتبها في هذا الشأن، فكتب الآباء بدورهم لنسطور يوضّحون له اعتقادهم في الإيمان بالسيد المسيح كما قدم البابا كيرلس اثني عشر بنداً شرح فيها العقيدة المسيحية السليمة وحرم فيها كل من يتعداها، وهي التي سُميت فيما بعد “الحرومات الإثني عشر”. إلا أن نسطور احتقر الرسالة والحرومات وقام بكتابة بنود ضدها، وهكذا انقسمت الكنيسة إلى قسمين: الأول يضم كنائس روما وأورشليم وآسيا الصغرى وهذه الكنائس أيّدت البابا كيرلس في رأيه، والثاني يضم كنيستي إنطاكية والقسطنطينية التي هي كرسي نسطور.
وأمام هذا الانقسام طلب البابا كيرلس من الإمبراطور ثيؤدوسيوس أن يجمع مجمعاً لدراسة الأمر، فاستجاب الإمبراطور لطلب البابا وأرسل لجميع الأساقفة بما فيهم نسطور لكي يجتمعوا في أفسس، وكان اجتماعهم يوم الأحد 13 بؤونة سنة 147ش الموافق 7 يونيو سنة 431م. وقد انتهى المجمع بحرم نسطور ووضع مقدمة قانون الإيمان. بعد انتهاء المجمع عاد البابا كيرلس إلى مدينته الإسكندرية، فخرج الشعب كله لاستقبال باباه الحبيب، وعاش بعدها البابا حوالي أربعة عشر عاماً ثم تنيح بسلام في 3 أبيب سنة 160ش الموافق 10 يوليو سنة 444م. تعيّد له الكنائس التي تتبع الطقس البيزنطي في 27 يونيو، والكنيسة الرومانية اللاتينية (الكاثوليكية) في 28 يناير، والكنائس الغربية في 15 أكتوبر وهو يوافق يوم ارتقائه للسُدّة المرقسية الرسولية.
📚 كتاباته
تعتبر كتابات القديس كيرلس من أعظم ما ورد في الأدب المسيحي المبكر، فهي تكشف عن عمق في الفكر، وغنى في الآراء، وتحمل براهين ثمينة وواضحة تؤكد ما للكاتب من قدرة على البصيرة والجدل تجعل كتاباته من المصادر الأولى لتاريخ العقيدة والتعليم الكنسي. كرّس كتاباته للتفسير والجدل ضد الأريوسيين حتى سنة 428م، بعد هذا تحوّلت بالكامل إلى تفنيد الهرطقة النسطورية.
يمكن الرجوع إلى كتاباته وشخصيته في كتابنا: “الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، كنيسة علم ولاهوت، 1986م، فصل 13. من كتاباته التمايز بين طبيعتي السيد المسيح بالفكر فقط: نص القديس كيرلس صراحةً على أن رؤية الطبيعتين في السيد المسيح ممكنة فى الفكر فقط وليس فى الواقع، لأن المسيح غير منقسم إلى طبيعتين من بعد الاتحاد.
لذلك، بفهمنا وبتأمل عيون النفس فقط فى الكيفية التى تأنس بها الابن الوحيد، نقول أنه توجد طبيعتان اتحدتا، لكن نقول أن المسيح الابن والرب هو واحد، هو كلمة الله الآب المتأنس والمتجسد”. (فقرة 7 من الرسالة 45 إلى الأسقف سكسينسوس Succensus) عندما تفحص طريقة التجسد بدقة يرى العقل البشري بلاشك الاثنتين (أى الطبيعتين) مجتمعتين معاً بطريقة تفوق الوصف وبلا اختلاط فى اتحاد. إلا إن العقل لا يقسمهما على الإطلاق بعد أن اتحدتا بل يؤمن ويعترف بقوة أن الواحد من الاثنتين هو إله وابن ومسيح ورب.(فقرة 15 من رسالته 40 إلى أكاكيوس أسقف ميليتين) ولذلك نقول أن الطبيعتين اتحدتا، ومنهما نتج ابن ورب واحد يسوع المسيح، كما نقبل فى أفكارنا، لكن بعد الاتحاد، إذ قد زال الآن التفريق إلى اثنتين، نؤمن أنه توجد طبيعة واحدة للابن كواحد، واحد تأنس وتجسد. (فقرة 14 من رسالة 40) دعهم إذاً لا يقسمون لنا الابن الواحد، جاعلين الكلمة والابن الواحد على حدة، ويفصلون عنه الإنسان الذي من امرأة – كما يقولون – بل فليعرفوا بالأحرى أن الله الكلمة لم يكن متصلاً بإنسان، بل أعلن أنه تأنس “معيناً نسل إبراهيم” بحسب الكتاب المقدس، وصار “يشبه اخوته” (عب 2 :17) “فى كل شئ فيما عدا الخطية” (قارن عب 4 : 15؛ 2 كو5 : 21) وهذا الشبه التام كان من اللائق أن يأخذه، وفوق كل التشابهات الأخرى “يأخذ شبهنا فى” ميلاده من امرأة، والذي (أي الميلاد) يُعد فينا (نحن البشر) لائقاً بالطبيعة البشرية ومثلنا، لكن فى الوحيد الجنس، يُفهم (الميلاد) أنه أعمق وأعظم من هذا، لأن الله صار جسدًا، وبالتالي العذراء القديسة تُدعى والدة الإله (ثيؤتوكوس Theotokos ). إذا كانوا يقولون أن الله والإنسان باجتماعهما معاً كوّنا المسيح الواحد الذي فيه أقنوم (hypostasis) كل منهما محفوظ بغير اختلاط ولا امتزاج ولكن يُميز بالعقل، فمن الممكن أن نرى أنهم لا يفكرون ولا يقولون أى شئ صحيح في هذا. (فقرتان 4، 5 رسالة رقم 50 إلى فاليريان أسقف أيقونية).
مصدر آخر
كيرلس الأول (بابا الإسكندرية)
✝️ النشأة والتكوين
كيرلس الأوّل (376 – 27 يونيو 444 م) البابا السكندري والبطريرك الرابع والعشرون، والملقَّب «عمود الدِّين ومصباح الكنيسة الأرثوذكسيَّة».
كان ابن أخت ثاوفيلس (بابا الإسكندريَّة) (رقم 23)، وتربَّى عند خاله في مدرسة الإسكندريَّة، وتثقَّف بعلومها اللاهوتيَّة والفلسفيَّة اللازمة للدفاع عن الدِّين المسيحي والإيمان الأرثوذكسي. أرسله خاله إلى دير القدِّيس مقار في البريَّة، فتتلمذ هناك على يد المعلِّم صرابامون، وقرأ له سائر الكتب الكنسيَّة وأقوال الآباء، وروَّض عقله بممارسة أعمال التقوى مدَّةً من الزَّمان.
⛪ بدايات الخدمة
ثم بعد أن قضى في البريَّة خمس سنوات أرسله البابا ثاؤفيلس إلى الأب سرابيون الأسقف. وبعد ذلك أُعيدَ على يد الأسقف إلى الإسكندريَّة، ففرح به خاله ورسمه شماسًا، وعيَّنه واعظًا في الكنيسة الكاتدرائيَّة، وجعله كاتبًا له.
⚔️ الصراع مع الوثنيَّة واليهود
ولمّا تُوفِّي خاله البابا ثاؤفيلس في 18 بابه سنة 128 ش (15 أكتوبر 412 م) أُجلِسَ هذا الأب خلفه في 20 بابه 128 ش (17 أكتوبر سنة 412 م)، ووجَّه اهتمامه لمناهضة العبادة الوثنيَّة والدفاع عن الدِّين المسيحي. وبدأ يردّ على أفكار الإمبراطور يوليانوس في مصنَّفاته العشرة التي كانت موضع فخر الشَّباب الوثنيِّين، باعتقاد أنَّها هدمت أركان الدِّين المسيحي.
فقام البابا كيرلس بالرَّدِّ عليها، وقام بمناوئة أصحاب الفكر غير الأرثوذكسي حتَّى تمكَّن من قفل كنائسهم والاستيلاء على مقتنياتها الذَّهبيَّة. ثم أمر بطرد اليهود من الإسكندريَّة، فقام قتال وشغب بين اليهود والمسيحيِّين، وتسبَّب عن ذلك اتِّساع النِّزاع بينه وبين الوالي. ومن خلال عداوته لأوريستيس ارتبط اسم كيرلس الأوّل باغتيال هيباتيا الفيلسوفة والرِّياضيَّة الأفلاطونيَّة المحدثة التي كانت على علاقة طيِّبة بأوريستيس.
📜 الصراع النسطوري
ولمّا قام نسطور بنشر فكره بأنَّ العذراء هي والدة المسيح وليست والدة الإله، اجتمع لأجله مجمع مسكوني مكوَّن من مائتي أسقف بمدينة أفسس في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثَّاني الشهير بالصغير. فرأس القدِّيس كيرلس بابا الإسكندريَّة هذا المجمع وناقش نسطور وهدَّده بالحرم والإقصاء عن كرسيِّه إن لم يرجع عن آرائه. وكتب حينئذٍ الإثني عشر فصلًا عن الإيمان الأرثوذكسي، رافضًا فكر نسطور.
وقد خالفه في ذلك الأنبا يوحنا بطريرك أنطاكية وبعض الأساقفة الشَّرقيِّين منتصرين لنسطور، ولكنَّهم عادوا إلى الوفاق بعد ذلك. وانتصر كيرلس على خصومه، وقد وضع كثيرًا من المقالات والرَّسائل شارحًا فيها «أنَّ الله الكلمة طبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد متجسِّد»، وحرَّم كل من يفرِّق المسيح أو يخرج عن هذا الرأي. ونُفِيَ الإمبراطور نسطور في سنة 435 م إلى البلاد المصريَّة، وأقام في أخميم حتَّى تُوفِّي في سنة 440 م.
📖 الأعمال والتأليف
ومن أعمال البابا كيرلس شرح الأسفار المقدَّسة. وفي نهاية حياته مرض قليلًا، وتُوفِّي بعد أن أقام على الكرسي الإسكندري إحدى وثلاثين سنة وثمانية شهور وعشرة أيّام.
⚰️ مقتل هيباتيا
كان حاكمُ الإسكندريَّة أوريستيس يقدِّم دعمًا لهيباتيا، والتي كانت عالمةَ فلكٍ وفيلسوفةً وعالمةَ رياضياتٍ، والتي كان لها تأثيرٌ واسعُ النطاقِ في مدينةِ الإسكندريَّة. كما كان العديدُ من الطلَّاب من العائلات الثريَّة والمؤثِّرة في الإسكندريَّة يسعى لتلقّي دراستِه مع هيباتيا، والعديدُ من هؤلاء لاحقًا تقلَّدوا الوظائفَ المرموقةَ في كلٍّ من الحكومةِ والكنيسةِ.
اعتقد العديدُ من المسيحيِّين أنَّ تأثيرَ هيباتيا قد جعل أوريستيس يرفضُ العروضَ التي تقدَّم بها كيرلس. فيما يعتقدُ المؤرِّخون في العصر الحديث أنَّ أوريستيس قد رسَّخ علاقتَه مع هيباتيا لتعزيز العلاقة مع المجتمع الوثني في الإسكندريَّة، كما فُعِلَ ذلك مع اليهود من قبل، وذلك لتحسينِ التَّعامل في ظلِّ الحياة السياسيَّة الصَّعبةِ المتمثِّلةِ في العاصمةِ المصريَّة.
قام حشدٌ من الغوغاءِ المسيحيِّين، ربَّما بقيادة مجموعة «أُخوة مسيحيَّة»، بالإمساكِ بهيباتيا من عربتها وقتلِها بوحشيَّة، حيث قُطِّع جسدُها إربًا وحُرِقَت قِطَعٌ منه خارجَ أسوارِ المدينة.
📚 انعكاسات ومواقف
تذكُرُ دراساتٌ حديثةٌ أنَّ موتَ هيباتيا كان نتيجةً للصِّراع بين فصيلين مسيحيَّين: أوريستيس، والذي كان يحظى بدعمٍ من هيباتيا، وكيرلس الأوّل. ووفقًا لكاتب المعاجم وليام سميث «فإنَّها اتُّهِمَت بكثيرٍ من الأُلْفَةِ مع أوريستيس، حاكمِ الإسكندريَّة، لِتَنتشرَ هذه التُّهمةُ بين رجالِ الدِّين، الذين حملوا فكرةَ أنَّها أوقفت الصَّداقةَ بين الحاكمِ أوريستيس ومطرانِهم كيرلس الأوّل».
📖 كتاباته
تُقسَّم كتابات القدِّيس كيرلس إلى كتاباتٍ تفسيريَّةٍ للعهدين القديم والجديد، وأخرى عن عقيدة الثالوث ضدَّ الأريوسيِّين، وأيضًا كتاباته بخصوص الصِّراع النَّسطوري، بالإضافة إلى رسائله الكثيرة ورسائله الفصحيَّة كذلك التي كانت من عادة أساقفة الإسكندريَّة. كما يُعرَف بالتَّعديلات التي أضافها على قدَّاس القدِّيس مرقس الرَّسول، فصار يُطلَق عليه القدَّاس الكيرلسي.
✍️ أعماله التفسيريَّة
- السجود والعبادة بالرُّوح والحق، وهو مكتوبٌ في صورةِ الحوار.
- التَّعليقات اللَّامعة المعروف بالجلافيرا Glaphyra، وينقسم إلى أجزاءٍ موزَّعةٍ ومخصَّصةٍ لأسفار موسى الخمسة.
- تفسير سفر إشعياء.
- تفسير الأنبياء الإثني عشر الصِّغار.
- تفسير إنجيل متَّى (مفقود).
- تفسير إنجيل لوقا.
- تفسير إنجيل يوحنَّا.
يوجد أيضًا شذرات من كتبٍ تفسيريَّةٍ مفقودةٍ لأسفار أخرى.
📜 أعماله العقائديَّة
- كتاب الكنوز في الثالوث.
- كتاب حوار حول الثالوث.
- ⚔️ أعماله المرتبطة بالهرطقة النسطوريَّة
- الكتب الخمسة Tomes ضدَّ تجاديف نسطور.
- في الإيمان القويم، ثلاثة مقالات:
- المقالة الأولى موجَّهة إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس الثَّاني.
- الثانية إلى أركاديا ومارينا.
- الثالثة إلى بوليخاريا وإفدوكسيا.
- الحرومات الإثنا عشر، وهي التي أرسلها كيرلس باسم المجمع المقام في مدينة الإسكندريَّة في الرِّسالة الثَّالثة لنسطور، ورقمها 17 بين رسائل القدِّيس كيرلس، وقد صُدِّقَ عليها فيما بعد في مجمع أفسس المسكوني.
ثلاثة مقالات دفاعًا عن الحرومات الإثني عشر:
- شرح الحرومات الإثني عشر (بعد مجمع أفسس).
- دفاع ضدَّ ثيؤدوريت أسقف قورش (انظر: ثيودوريطس) الذي كان قد فَنَّدَ الحرومات الإثني عشر (قبل مجمع أفسس).
- دفاع ضدَّ أندراوس الساموساطي، أو ضدَّ الأساقفة المشرقيِّين (قبل مجمع أفسس).
وكان ثيؤدوريت وأندراوس كلاهما قد كتب تفنيدًا لحرومات القدِّيس كيرلس بناءً على طلب يوحنَّا أسقف أنطاكية، الذي اصطلح مع كيرلس في نهاية الأمر.
🏛️ دفاعاته
- دفاع موجَّه إلى الإمبراطور ثيؤدوسيوس، وفيه يشرح ويبرِّر موقفه قبل وأثناء مجمع أفسس.
- شرح أو تعليم Scholia Σχόλια عن تجسُّد الابن الوحيد.
- حوار عن تجسُّد الابن الوحيد.
- مقالة في أنَّ المسيح واحد.
- ضدَّ الذين يُنكرون أنَّ العذراء القدِّيسة هي والدة الإله.
- ضدَّ ديودور (الطَّرسوسي) وثيؤدور (الموبسويستي)، وهما معلِّما نسطور.
- كتاب ضدَّ القائلين باختلاط الجواهر.
- إجابات إلى طيباريوس.
- إجابات عقائديَّة.
- إجابات إلى كالوزيريوس Calosirius.
يُذكَر أيضًا بين أعماله كتابه ضدَّ يوليانوس الإمبراطور الجاحد (انظر: يوليان المرتد) ومجموعة عظات.
✉️ رسائله
أمّا عن رسائله، فله 110 رسالة متفرِّقة منشورة في ترجمةٍ إنجليزيَّةٍ منه وإليه، ومنها ما هو مزوَّر. تحوي الرَّسائل كثيرًا من التَّفاصيل عن قضيَّة نسطوريوس، ومنها رسائل متبادلة بين كيرلس ونسطور، وقد ترجمها الدُّكتور جوزيف موريس فلتس والدكتور موريس تاضروس إلى العربيَّة. ومن أهم تلك الرَّسائل بالنسبة للنسطوريَّة:
- رسائل من وإلى نسطور، تشغل الأرقام من 1–7.
- الرِّسالة المجمعيَّة باسم مجمع إسكندريَّة إلى نسطور، وتحتوي الحرومات الإثني عشر، وهي الرِّسالة 17.
- الرِّسالة 39 إلى يوحنَّا الأنطاكي، المعروفة بصيغة الوحدة Formula of the reunion، أُرسِلَت عام 433.
- الرِّسالة 40 إلى أكاكيوس أسقف ميليتن Melitene.
- الرِّسالة 44 إلى أفلوجيوس Eulogius.
- الرِّسالتان الأولى والثَّانية لسوكّينسوس Succensus، وتشغلان 45 و46.
- الرِّسالة 50 إلى ڤاليريان أسقف أيقونيَّة.
- الرِّسالة 55 في شرح قانون الإيمان.
- كذلك له 29 رسالة فصحيَّة من العام 414 حتَّى 442.
🌍 أثر كتاباته وترجماته
جديرٌ بالذِّكر أنَّ ترجمة أعمال القدِّيس كيرلس إلى العربيَّة لم تبدأ في العصر الحديث فقط، خاصَّةً بواسطة المترجمين في المركز الأرثوذكسي للتراث الآبائي، بل توجد ترجمات قديمة عديدة، والأرجح أنَّها تمَّت عن القبطيَّة وليس عن اليونانيَّة مباشرةً. ونجد اقتباسات كثيرة جدًّا من أعمال القدِّيس كيرلس الأصيلة في كتاب اعترافات الآباء وأيضًا عند ساويرس بن المقفَّع.
وترجع أهميَّة كتابات القدِّيس كيرلس إلى النِّزاع المستمر الذي يرجع لمجمعي أفسس وخلقيدونيَّة في القرن الخامس بين اليعاقبة والملكيِّين والنَّساطرة، والذي لعب فيه كيرلس بابا الإسكندريَّة دورًا بالغ الأهميَّة في حسم التَّعبيرات الإيمانيَّة التي التزمت بها الكنائس الأرثوذكسيَّة، مرورًا بالأنبا ساويرس الأنطاكي الذي اعتمد على تعاليم كيرلس بشكلٍ أساسي.
⛪ الاهتمام الغربي
أمّا في الغرب فلم يزدد الاهتمام بأعمال كيرلس بشكلٍ ملحوظ قبل النِّزاع بين الرُّوم الكاثوليك والأرثوذكس اليونانيِّين حول انبثاق الرُّوح القدس. وقد لجأ الكاثوليك إلى أعمال القدِّيس كيرلس لأنَّهم رأوا فيه شاهدًا من الآباء اليونانيِّين الكبار على انبثاق الرُّوح القدس من الآب والابن.
وفي القرن التَّاسع عشر أعلن البابا الرُّوماني ليون الثَّالث عشر اعتبار القدِّيس كيرلس معلِّمًا للكنيسة الجامعة (Doctor of the Church).
🤝 كيرلس والوحدة الكنسيَّة
وفي العصر الحالي، مع ازدياد اتِّجاهات المسيحيِّين حول العالم ناحية الوحدة الكنسيَّة وإزالة الشِّقاقات، ما زالت تعاليم القدِّيس كيرلس تُعتبَر أرضيَّةً مشتركةً لتعاليم الكنائس الخلقيدونيَّة واللاخلقيدونيَّة.
موسوعة قنّشرين للآباء والقديسين والأعلام ـ رصد انترنت